"الدولة المستحيلة": رهان على صفقة خاسرة

"الدولة المستحيلة": رهان على صفقة خاسرة

24 مارس 2015
مسجد نصير الملك، شيراز (تصوير: رامين رحماني نجاد)
+ الخط -

يبدو الغرب مسترخياً في شكل الدولة الحديثة أكثر مما هو العالم الإسلامي، هذه الدول التي تعيش في جنوب العالم وشرقه خاضت السباق في مضمار الحداثة من أجل اللحاق بأوروبا وأميركا بلا طائل. لا غرابة في ذلك إذا كانت الدولة بشكلها الحديث هي الابن الشرعي لسياقات أوروبية متصلة، بدأت بالتنوير ومرّت بالثورات الصناعية والتكنولوجية وصولاً إلى هيمنة الرأسمالية.

إنها صيرورات لم يكن العالم الإسلامي جزءاً منها ولا يمكن أن يتبناها أو يرى فيها أباً أو يُعترف به ابناً - ومقابل هذه الاستمرارية في التاريخ الغربي ثمة انقطاع في تاريخ الدولة الإسلامية وبتر سببته الحقبة الاستعمارية التي أورثت مستعمراتها هياكل وأنظمة الحكم والقوانين، وقبِل الوارثون تركة من الدول المشوّهة أو الدول الخداج إن جاز التعبير.

هذه فكرة من بين ما يعجّ به كتاب صغير ومتشعب للباحث الفلسطيني الكندي وائل ب. حلاق بعنوان "الدولة المستحيلة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، صدر أول مرة بالإنجليزية عام 2012، وترجمه عمرو عثمان حديثاً.

يزعم حلاق أن أطروحته بالغة البساطة، وهي أن "مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق"، والسبب ورطة الحداثة الغربية التي تنظر إليها الدول العالمثالثية باعتبارها القمة التي وصلت إليها البشرية. وإذا كانت الحداثة قد دفعت ماكنة التطور الثقافي والعلمي إلى سرعته القصوى غير عابئة بالأسئلة الوجودية والأخلاقية، فإنها قد تسببت مع ما خلّفه الاستعمار في تعطيل تجربة الحكم الإسلامي وبلوغها وصيرورتها، وفتحت هذه الفجوة بين التجربة الجمعية الأخلاقية الراسخة والتجربة السياسية والاقتصادية للدولة.

هكذا انجرّت أفريقيا وآسيا المكافحتان، بعد تخليهما عن تجربتهما التاريخية وهويتهما، إلى مستنقعات من الحروب والفقر والمرض: "إن الحداثة التي تحدد المؤسسات، ويحدد مفكرو الغرب الحديث القوي خطابها المهيمن، أجحفت بحق ثلثي سكان العالم الذين فقدوا تاريخهم وفقدوا معه طرائق وجودهم العضوية"، يقول حلاق.

يعتبر صاحب "هل أُغلقت بوابة الاجتهاد؟" أن المعضلة في بناء دولة إسلامية تكمن في الشريعة أي الشيفرة الأخلاقية للإسلام، وهي "المشروع الضخم لبناء إمبراطورية أخلاقية – قانونية دافعها الأساسي اكتشاف إرادة الله الأخلاقية". تعطّل هذه الشريعة الفصلَ بين "ما هو كائن" و"ما ينبغي أن يكون"، الأمر الذي جاء به عصر التنوير، وتعطل أولوية السياسي المتفق عليها في الدولة الحديثة لتجعل من العالم عالماً أخلاقياً بامتياز.

فالحكم الإسلامي مبني حول سلطة الشريعة التي هي إرادة الله، والقواعد الأخلاقية والقانونية والسياسية والميتافيزيقية التي يقوم عليها لا تمتّ بصلة إلى القواعد التي تقوم عليها الدولة الحديثة. ويدلل حلاق على ذلك بالجماعة أو الأمة المحكومة بالأسس الأخلاقية ذاتها، والتي تحل محل الشعب بمعناه الحداثي. فالدولة بالمعنى الإسلامي مرتبطة ميتافيزيقاً بالإرادة الأسمى، أي الله، وبالتالي فلا إرادة للأمة، الأمة هنا وسيلةً لغاية أكبر، وما يمايز بين أفرادها درجات إيمانهم، لذلك فإن الأمة تأتي قبل الدولة التي لا يبرَّر وجودها "إلا بقدر ما تعزز جهد الفرد في طاعة الخالق".

من هنا يخلص حلاق إلى أن الحكم الإسلامي نظام أخلاقي له سيادة إلهية، وفي حين تتحكم الدولة الحديثة بالمؤسسات الدينية وتنظمها وتخضعها لإرادة القانون، فإن الشريعة تهيمن على كافة مؤسسات الدولة وتصبح سلطة تشريعية لا تضاهى ولا شريك لها، فهي قانون الأرض والسماء في آن. والهوية الإسلامية لا يمكن فصلها عن الشريعة إلا إن أمكن فصل الهوية الأوروبية عن التنوير، والحكم الإسلامي الذي تحدده القيم الشرعية يشكّل للذات هوية لا تعرف السياسي.

ويلفت حلاق إلى أن الحكم الإسلامي ابتكر نموذجاً خاصاً من الفصل بين السلطات كان أكثر دقة في تجسيد هذا الفصل وتمكينه. ويضرب أمثلة تاريخية على نظام القضاء والفقهاء كممثلين للأمة، معتبراً أن سيادة الشريعة كانت حكماً للقانون أكثر تفوقاً من نظيره الحديث، فقد خدمت هذه الشعب والجماهير والفقراء وليس السلطة السياسية، إذ أنها لم تكن مصممة لذلك. ويضيف أن سعي المسلمين اليوم إلى تبني نظام الفصل بين السلطات الخاصة بالدولة الحديثة ليس إلا رهاناً على صفقة أقل شأناً مما ضمنوه لأنفسهم عبر قرون كثيرة من تاريخهم.

يصرّ حلاق على أن ليس لدى المسلمين ما يجعلهم يختارون نموذج الدولة الحديثة، ويدعو إلى تأمل علاقة الفرد بالدولة الحديثة ومقارنته بالفرد والحكم الإسلامي من زاوية العنف والحرب مثلاً. ففي الحالة الأولى تكرّس علاقة الفرد بالدولة من خلال فرض مفهوم التضحية من أجل هذه الدولة.

يتجسد ذلك في التجنيد في حالة الحرب، حيث "السياسي وحده يملك السلطة على الحياة والموت.. ولا تتحقق الدولة الحديثة بشكل كامل حين تحميني من العنف، بل عندما تجندني في قواتها المسلحة"، جملة أستاذ العلوم السياسية الأميركي بول كان هذه من نسل العبارات التي قدمها الفيلسوف الألماني كارل شميت: "كل طفل جديد سيكون معتدياً إن شاء الله" أو أن "السلطة السياسية هي الإله الجديد".

يقابل هذا النموذج وفقاً لحلاق أن الإسلام لم يعرف التجنيد ولم يتحكم في الحياة والموت بأي معنى سياسي. حتى مفهوم الجهاد - عند حلاق- لا ينطبق عليه نموذج التجنيد القسري الغربي، فوجوب الجهاد وجوب أخلاقي بعيداً عن الإجراءات العقابية التي تمارسها الدولة الحديثة ضمن عملية ضخمة من إنتاج الرعايا.

يقصد حلاق بـ "إنتاج الرعايا" عمليات مختلفة من تطوير أشكال الضبط الممثلة بالمؤسسات التعليمية وتأسيس نظم رفاه وشبكات أمان اجتماعي ومؤسسات رقابية، أي أن يكون الإنسان الحديث (نقيض الإنسان الأخلاقي) في الدولة ومنها، وإدخاله "القفص الحديد" لفيبر الذي يرى أن الحرية الفردية تمثّل توتراً بين النظام الأخلاقي وعالم المادة. وهنا تصبح قيمة حياة الإنسان الحديث خارجية وليست داخلية.

لا يمكن لعملية "إنتاج الرعايا" هذه أن تجد أرضاً مشتركة مع نموذج الحكم الإسلامي في التاريخ، فالتجربة الأوروبية تعرّضت لفترات من مآسي الإقطاع وتجاوزات الكنيسة وفظائع الثورة الصناعية، وهي أمور لم يعشها المسلمون لأكثر من ألف عام في فترات الحكم الإسلامي، وفقاً للكاتب.

يخلص حلاق إلى أن الشريعة ظلت شوكة في جنب الاستعمار تم اقتلاعها في القرن التاسع عشر، فلم تكن الحداثة لتقبل الشروط الأخلاقية بأي شكل. وبينما اندثرت مؤسسات الشريعة، يعتبر حلاق أن آثارها صامدة وأن نظامها الأخلاقي يمكن أن يعمل في اتجاهين من خلال الإفصاح عن أشكال حكم جديدة وتقديم تصوّر جديد للمجتمع السياسي.

المساهمون