بين قصيدتَين

بين قصيدتَين

14 سبتمبر 2018
فرح أزرق/ سورية
+ الخط -

من اللافت أن قصيدة شهيرة مثل "تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب" لإبراهيم اليازجي، قد قُرئت، حين كتبها الشاعر، في مجلس ضيّق لاجتماع سرّي عقدته "الجمعية العلمية السورية" عام 1868.

بل إن نبيه أمين فارس يقول في مقدمته لكتاب "يقظة العرب" لجورج أنطونيوس، وهو الكتاب الذي استعار عنوانه من قصيدة اليازجي ذاتها، إن القصيدة لم تدوَّن، بل تناقلها الناس على صفحات القلوب. وإنه لم ير منها سوى واحد وأربعين بيتاً في كتاب أحمد عزت الأعظمي الصادر عام 1931 وعنوانه "القضية العربية".

يذكر جورج أنطونيوس أيضاً أن اليازجي قرأ القصيدة أمام ثمانية موثوقين من أعضاء "الجمعية العلمية السورية"، وأن الرجال الثمانية حفظوها عن ظهر قلب ولم يدوّنوها كتابة، بل إن القصيدة لم تُكتب البتة في أي منشور طوال ذلك القرن، وكان الناس يحفظونها دون أن يكتبوها، وهم لا يأمنون على أنفسهم من أن يتهموا بالخيانة.

ومع ذلك، فقد انتشرت بقوة بين العرب في بلاد الشام، وهي قصيدة مشبعة بالأمل، "إذ استطاعت أن توقظ العاطفة العميقة في الشعب الذي تخاطبه"، بفضل تعبيرها عن المشاعر التي كان يحس بها هؤلاء. وكان لها "أثر بالغ في نفوس الطلاب، ونصيب وافر في تغذية الحركة القومية"، حتى أن أنطونيوس سماها نشيداً للثورة.

ويمكن أن يكون مصير هذه القصيدة شبيهاً أو قريناً لمصير القضية التي تعبّر عنها، فالحماسة والعاطفة الشديدة لم تثمرا غير تلك الحركات والجمعيات التي حاول المشاركون فيها إيقاظ الوعي القومي، أو تكوين وعي قومي جديد يمكن أن يساعد في حركة النهوض، غير أن الشفاهية، التي كانت هي الطريقة الوحيدة لانتقال القصيدة، هي التي غلبت على النشاط السياسي أيضاً، ولم تترجم الدعوة التي سجّلها اليازجي في قصيدته إلى كيان حقيقي على الأرض العربية في العقود التالية.

أذكر أن الغالبية ممن كانوا يقرأون أبياتاً من القصيدة، حين كنا طلاباً، كانوا يبتسمون ساخرين، وقد بات واضحاً اليوم أن ذلك الجيل إنما كان يسخر من نفسه، ومن الخيبات الكثيرة التي منيت بها الأمة.

وليس لدي ما يؤكد أن الجواهري قد كتب قصيدته التي يقول في مطلعها: "نامي جياع الشعب نامي/ حرستك آلهة الطعام" رداً على هذه القصيدة، ولكنه مجرد احتمال. وفيها معارضة واضحة من حيث المعنى لقصيدة اليازجي، وحتى لو كانت تتضمّن تنديداً ضمنياً بالتراخي والقعود العربي عن الثورة والتمرّد على الظلم والفقر، فإن استخدامها الرمز ذاته "النوم" يشير إلى خيبة الشاعر من التاريخ، أو من صنّاع التاريخ الذين كان سلفه يأمل أن يمضوا في شوط الحرية إلى آمال أخرى لم تتحقق.

والغريب أن قصيدة الجواهري كتبت في عصر مبكر جداً على عصر الهزائم العربية، ففي نهاية الخمسينيات كانت الأمة لا تزال تؤمن أن بوسعها أن تستفيق، بحسب نداء اليازجي، بينما كان الشاعر، بحسّه النبوئي العميق، يرى أنها لم تفعل شيئاً طوال ثمانين عاماً مضت من عمر القصيدة اليازجية.

على من كان الحق؟

المساهمون