أحمد برقاوي.. شذرات تحت قبّة زارا

أحمد برقاوي.. شذرات تحت قبّة زارا

13 ابريل 2020
(أحمد برقاوي في لندن، 2019)
+ الخط -

لا يشكّل كتابُ "شذرات اللقيط" (دار كتّاب) لأستاذ الفلسفة أحمد برقاوي، خروجاً عن إطار انشغالاته التي مرّت، سواء في "محاولة في قراءة عصر النهضة" أو "العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ أو"كوميديا الوجود الإنساني"، بل هو أشبه بامتداد أغصان من فوق أسوار الانشغالات الفكرية إلى حديقة الشعرية، كما حدث مع عدد من المشتغلين بالفلسفة أو قضايا الفكر بعامّة ذكّرتنا بهم هذه الشذرات ذاتها.

يحضر في الذهن "هكذا تكلّم زرادشت" للألماني فريدريك نيتشه، و"المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية" للمغربي عبد الكبير الخطيبي. كما تحضر من اتجاه معاكس امتدادات أغصان الشعرية فوق أسوار نظمها وقوافيها إلى باحة الفكر الفلسفي مترامية الأطراف، كما فعل الفلسطيني توفيق صايغ، والإنكليزي ت. س. إليوت. ولكن مع فارق لافت للنظر؛ ففي حين يُطوّع شعراء الحداثة الشعرية في كلّ اللغات النثرَ ليصبح أداة شعرية أكثر مرونة، يحاول الفلاسفة تطويع الشعر ليصبح أداة فلسفية أكثر إنسانية، وأيضاً في كل اللغات.

الشذرات، هذه الكلمة المفتاحية في العنوان، ليست وحدها علامة الطريق، بل هناك كلمة/ علامة "الوجود" ذاتها التي تكاد تكون أيقونة الفلسفة مذ كانت. ربما يأتي تكرار الإشارة إلى هذه الأيقونة بين "قصيدة" وأخرى عفو الخاطر، إلّا أنها لا تنفصل عن الرغبة في تعميق مدى امتدادات الإحساس الشعري بالعالم؛ أي الأغصان أو الشذرات الممتدّة من فوق أسوار الفكر إلى عوالم لا تخضع لأحكامه، إلى عوالم تتحرّر فيها من عبئه كما يبدو.

ولماذا الشذرات بالتحديد؟ لأنّ الشذرة تكشف عن جزءٍ من كلّ، فتوحي بأكثر مما تبوح، وتستثير من الشوق أكثر مما تروي، وتعلّق المعنى فتأخذك إليه ولا تقوله. ولأن الشذرة أصدق تعبيراً حين تراوغ أفق توقّع القارئ، ويفقد حتى "اللقيط" الذي تُنسب إليه الشذراتُ معناه الواضح ويتحوّل إلى لغز. وأحسب أن ها هنا، في التلميح والإلغاز، تتحوّل الشعرية إلى أداة فلسفية أكثر إنسانية. وفي هذه البداية، تحت عنوان "اللقيط"، نجد أكثر من امتدادٍ إلى أكثر من مدى يذهب إليه الحس وليس الفكر وحده:

"أنا اللقيط
رُميت على قارعة الوجود
طويلاً بقيت مرمياً على قارعة الوجود
لا يد مُدّت ليدي
ولا امرأة حاولت ضمّي
حتى الشيطان حدّق في عيني ومضى
طويلاً بقيت مرمياً على قارعة الوجود
إلى أن مرّت بي اللغة
فاحتضنتني
وراحت تُرضعني من ألف نهد ونهد".

هذه اللغة، أو اللوغوس، حسب تعبير الإغريقي الأشهر، هيراقليطس، هي قانون الكون الكلّي، ولا أشك على الإطلاق أنها مقصودة هنا بهذا المعنى. وسأجدها تقترب بمدلولاتها المتعدّدة كما هي في سؤال يوجهه إلى "زارا":

"أتعبه البحث عن المعنى
منذ زمان يجوب
أروقة التاريخ
والحاضر والآتي
شاهد قبّة زارا
ثم سأل:
قل لي يا حكيم الأرض ما معناي؟
فأجاب بصوت هامس
معناك في رؤياك
معناك أن تغدو غيماً
يغادر ماء البحر
ثم يعود إلى الأرض
ولا يسأل أحداً أجراً".

وينقلنا السطر الأخير مباشرةً إلى جوّ شعري آخر؛ جوّ الناسك الصيني لاو تسو، صاحب "كتاب الطاو" الذي طوّع الشعر ليصبح أداة فلسفية أكثر إنسانية أيضاً في 81 قصيدة أصبحت طريق حياة. يقول لاو تسو، معبّراً عن إحساسه بالوحدة والغربة في القصيدة رقم 20:

"مرحُ الحشود
في عيد التضحية الكبرى
أو فوق الشرفة
في مهرجان الربيع
يتركني للأسف صامتاً، وحيداً
مثل طفل لم يبتسم أبداً
أنا من تُرك وحيداً
حائراً ومرتبكاً
وحينما يتألّق الناس جميعاً
أنا وحدي من يلقي الظلال
*
وحيد أنا ومختلف"

ويقول برقاوي في قصيدة "اغتراب":

يزرعون الشوارع والساحات
بوجوه رخامية
يصطنعون البكاء والضحك
يرسمون أنفسهم كما يشاء غيرهم
وأنا وحدي غريبٌ جدّاً
أمضي أبحث عنّي
أُلملم أحجار الكلام
تراب الكلام
شجر الكلام
ثم أبني فضاءً لكل الأجنحة
وأمضي في الرحلة
غريباً جدّاً.

وتتعدّد هذه الفضاءات التي تفتتحها اللغة بمعناها الذي أشرنا إليه. ويظلّ الوجود مهيمناً؛ وجود اللقيط الملقى على القارعة؛ ووجود "النهر المتأفّف الذي يضيق بمجراه" ولا "يطيق الضفاف/ فيجري على غير هدى"، و"لأنه يتيم المصب/ سيفنى مبعثراً بين البيد والواحات"، وذاك الوجود الذي يبتهل إليه ابتهال متصوّف:

"أيها الوجود العظيم
لا تجعلني شبيهاً بأحد
ولا عابراً مع العابرين
لا تجعل لعقلي سنداً
واترُك عيوني طليقة
كي ترى ما لا يُرى".

ومثلما جعل توفيق صايغ قبله النفي عن الوطن نفياً عن الوجود الحقّ بالمعنى الديني والفلسفي، يسير برقاوي (ولا ننسى أن كليهما فلسطينيٌّ لاجئ) في المسار ذاته. يقول في قصيدة "كينونة":

"لا أرض لي على هذه الأرض
ولكن الأرض ثابتة تحت قدميّ
لا جنسية في بطاقة هويتي تمنحني حق البقاء في المكان
لا شرعة تمنحني الحق في الوجود
غير أني صانع للوجود
أورثت أبنائي رحلة التيه
وطني على بعد خطواتٍ منّي
لكن الطريق إليه مغلقة
أنا الفلسطيني المشرّد في اليباب
يُمنني ابن أخي
بالحدب عليّ
أو يعيّرني بقوله: يا مقطوع الجذور
سبعون عاماً وأنا أنتظر
تحت شجر الآمال الأجرد".

هنا يرفع برقاوي قضيّة الحرمان من الوطن والانقطاع عن الجذور والتشرّد في المتاهات إلى مستوى قضية وجودية، يُصبح فيها الإنسان "وجوداً مطروداً من سجلّات الحق" و"هويته منبوذة من الأبعدين والأقربين"، فيتوجّه إلى نيتشه ويدعوه صديقي، سائلاً عن إنسانه الأعلى، وإلى كانط الذي يدعوه جده الأول ويسأل: "أتراني أنا المقتول أصير هو القاتل؟"، ثم يتوجّه إلى سارتر صاحب "دروب الحرية":

"... قل لي
متى أكون موجوداً
متى أصير لي وحدي"؟

بمثل هذه الأسئلة، وغيرها ممّا يندرج تحت بند انشغالات الفلسفة لا ارتحالات الشعراء، يكون برقاوي هو الشاعر الفلسطيني الثاني بعد توفيق صايغ السابق من يطرق هذا الاتجاه الفريد من نوعه في الشعر الفلسطيني المعاصر؛ أعني الإطلالة على قضية النفي عن الوطن من شرفة البحث عن الوجود الحق، بالمعنى الديني والفلسفي والسياسي دفعةً واحدة، بحيث يُخيَّل للقارئ أن اللاجئ الفلسطيني تجاوز حدود وجوده المتعيّن المعقول والمألوف (الوجود السياسي) إلى وجود أبعد أشبه بالعروج إلى وجود أعلى:

"أنا اللعب في حقول الوجود الواسعة
طليق الأجنحة ولا أسوار عندي حول بساتين الحياة
أسأل وأترك الأجوبة، لاهثة، تلحق بي".

وقد يتساءل قارئٌ حين يقرأ هذه السطور عن هوية صاحبها:

"ما أطول المسافات التي قطعتُ
وما أعلى القمم التي صعدتُ
وما أعمق الوديان التي نزلتُ
ولم أبلغ ما أريد
نبع من الغايات أنا
أقيم في قلب الخطر
ساهراً على شرف الوجود".

ولكن الجواب لن يكون تشخيصاً محدَّداً، أي لن يصف ملامح محدّدة لهذا الساهر على شرفات الوجود. إنه الإنسان بالطبع قبل كل شيء، قبل هذا الوطن أو ذاك، ذاك الذي تمتد حساسيته الشعرية وتتجاوز الأسوار، سواء كانت أسوار الشعر أو الفلسفة أو السياسة، وتنتشر في باحة خلفية غير مرئية هي اللغة أو "اللوغوس" الإغريقية، وهي سواء السبيل "الطاو" الصيني، هي الوجود الحق لدى المتصوّفة المسلمين.


بطاقة
تدور تجربة أحمد برقاوي (1950)، الفلسطيني الدمشقي المقيم في لندن حالياً، في مدارات الفلسفة تأليفاً وتدريساً ومنفى. صدر له: "محاولة في قراءة عصر النهضة" (1987)، و"المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي" (1989)، و"البرجوازية العربية المعاصرة (1991)، و"العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ "(1995)، و"مقدّمة في التنوير" (2000)، و"العرب وعودة الفلسفة" (2000)، و"كوميديا الوجود الإنساني" (2007)، و"العرب والعلمانية" (2007)، و"الأنا" (2009)، و"لعبة الحياة" (2010)، و"أنطولوجيا الذات" (2014)، و"في الفكر العربي الحديث والمعاصر" (2015)، "الدرس السقراطي" (2019).

المساهمون