المعجم الديبلوماسي: بروتوكولات في بيت الإنشاء

المعجم الديبلوماسي: بروتوكولات في بيت الإنشاء

08 مايو 2018
نجا مهداوي/ تونس
+ الخط -

شكّلت المراسلات والمعاهدات المتبادلة بين القوى الأوروبية العظمى وبعض الحكّام العرب، طيلة الحكم العثماني، أولى الخطابات الدبلوماسية العربية. وقد غلبت عليها صيغ التعظيم وصور الإنشاء الخَطابي. وفي العقود الأخيرة، نشطت الدبلوماسية الناطقة بالضاد، ولا سيما بعد اعتماد هذه الأخيرة لغةً رسمية ضمن أروقة منظمة الأمم المتحدة ابتداءً من 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973. وهو ما دفع بموظفي وزارات خارجية الدول العربية إلى الاجتهاد في صياغة خطاباتهم بما يتلاءم مع معايير الدبلوماسية والأعراف الدولية.

وهكذا تنامت بالتدريج دائرة خطابٍ ذي حقلٍ دلاليٍّ مستحدث، اصطُلح على تسميته بـ"اللغة الخشبية" أو "لغة البروتوكول". والتزم المهتمّون بتحرير البيانات والتصريحات والمواثيق الرسمية بإيجاد الصيغ العربية المناسبة للموضوعات التي تحكم العلاقات الدولية. كما جهدوا في صياغة مقابلاتٍ دقيقة للجمل والعبارات الجاهزة التي تستعملها الهيئات الدولية والناطقون الرسميون. وظهر بالتالي تحدٍّ جديد أمام العربية المعاصرة، يتمثل في ضرورة إيجاد صِيغٍ لا تنقل فقط معاني تتجانس مع الحساسية العالمية المتولدة من "اتفاقية فيينا" للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 وهي التي تحدد الإجراءات والضوابط الخاصة بالعمل الدبلوماسي بين الدول، بل وتؤدي الوظائف الإنجازية النابعة من روح هذه الاتفاقية.

فالدبلوماسية بما هي خطاب، تتمثل في إنجاز أفعالٍ كلامية مثل: الإدانة والشجب والدعم والتشجيع والترحيب والانتقاد وتقديم التعازي والتهاني. وكلها أفعال قولية أي ملفوظاتٌ تؤدي وظيفتها التواصلية بمجرّد الإدلاء بها. ويعود فضل بلورة نظرية أفعال الكلام هذه إلى اللغوي الإنكليزي جون أوستين (1911-1960) الذي جعل من وظيفة اللغة تغيير الواقع لا تمثيله، عبر النطق ببعض الصيغ والتراكيب. وهو ما يتطلب كفاءة عالية تتجاوز المستوى اللساني إلى المستوى الإنجازي.

وفي عصرنا، سرى إدراك بين الناطقين الرسميين العرب بضرورة امتلاك هذه الكفاءة عبر القطع مع بلاغة الإنشاء البالية في مخاطبة الدول وصياغة خطابٍ حديثٍ، قادر على التأثير في الواقع والتعاطي مع الأحداث والمواقف العالمية بشكلٍ يراعي الضوابط الدولية. ولذلك غاص كل من المختصّين في تحرير الخطابات الرسمية والصحافيين المشتغلين في الأقسام السياسية، في المتن المعجمي القديم لانتقاء المفردات الصالحة لأداء هذه الوظائف الدقيقة. إذ بقطع النظر عن موضوعاتها، تتوسل التصريحات الدبلوماسية بمجموعة من الكلمات والعبارات التي لا هدف من ورائها سوى القيام بدورٍ ما ضمن نسيج العلاقات الدولية.

ولا تكمن قيمة تلك "البيانات" في معناها اللغوي الظاهر، وإنما في قدرتها على التعبير المُلطَّف، وحتى الخشبي، عن قضية ما، ولا سيما المسائل الخلافية بين الدول والحساسيات والمحظورات القائمة بينها. ولذلك تعرف جل هذه العبارات توسيعاً دلالياً يجعلها تحيلُ على غير ما اعتادت أن تحيل عليه. ويكفي شاهداً على هذا المسار أن نرى فعل "شَجَبَ/يشجبُ"، الذي كان يعني بحسب لسان العرب: "حَزَنَ أو هَلَكَ. وشَجبَه الله يشجبه شجباً أي: أهلكه"، فغدا يدل على: "استنكرَ عليه، أدانه ونقده بحدّة"، ومنه سياسة الشجب والتنديد الرسمي التي تتخذها دولةٌ ما ضد دولة ثانية.

ويؤكد هذا المثل، على بساطته، استمداد الخطاب الدبلوماسي العربي صورَه من الذاكرة العربية- الإسلامية، بل ومنها يستلهم قِيمه ومبادئه، رغم أنه يظهرها في طابعٍ رسمي وأحياناً علماني. فالعديد من العبارات الدبلوماسية تستعيد تلك القيم، ومن أشهر شواهدها عبارة: "الدول الشقيقة والصديقة"، المحيلة على الدول العربية، التي ترتبط في ما بينها بروابط الدم والأخوة. وأما سائر الدول، فصداقة تشتد وتضعف بحسب المصالح والأزمات. كما تستدعي هذه التسمية، وهي بليغةٌ، قيمَ اللحمة القبلية، ومن تبعاتها مقولة "انصُرْ أخاكَ ظالماً أو مظلوماً". ويندرج في إطار هذا الاستمداد تضمين النصوص الدينية في الخطابات واللقاءات، حتى الأكثر رسمية، وهو ما يجعل القول الدبلوماسي العربي منشداً إلى القيم الكلاسيكية، مرتَهناً بمرجعياتها.

وفي مقابل هذا الخط التقادمي، يشهد هذا الخطاب نفسه جنوحاً إلى المفاهيم الكونية والمبادئ الدولية الأوسع انتشاراً في عصرنا الحديث، مهما تنوّعت الألسن، فعبارات مثل "طبقاً للقانون الدولي"، "نتابع عن كثبٍ"، أو "نعبر عن قلقنا"، لم تعد تنتمي إلى ثقافة محددة، بل صارت ملكاً مشاعاً، يتألف من استخدامات وعلامات مشتركة بين كل الناطقين الرسميين، وهو رصيد لا ينفك عن الاغتناء بفضل توالد العبارات المنمطة التي تشيع في كل اللغات، ومن بينها الضاد، التي دخلت عبرها إلى آفاق الخطاب المُعَولم.

وقد قام قسمٌ كبير من هذا الرصيد على آلية الترجمة الحرفية والتعريب لهذه المفاهيم والصور ويكفي أن نأخذ مقولة "التنديد بهجوم إرهابي"، والتي صارت جملها وأدواتها مَسكوكة ومعبَّدة، يكتفي الدبلوماسيون بتكرارها دون صدقٍ أو إبداعٍ، فقط لأنَّ "الواجب الدبلوماسي" يقتضي التنديد في حالة حصول مثل هذه الهجمات.

ومع تراكم هذه العبارات المكررة، صارت اللغة الخشبية العربية تنزع إلى التكلس حول صيغ توافقية جوفاء، هي أداة عمل رتيبٍ، يحيل على مجال تعبيري لا مرجعية حقيقية له. وإنما هو استخداماتٌ تقال لمجرد ذر الرماد في العيون. ومن أشهر ما شاع في أيامنا عبارة: "النأي بالنفس" التي صارت تكررها كل الأطراف المتصارعة، وخصوصا في لبنان، من أجل تبرير مواقفها.

ومع احتداد الأزمات العربية والخلافات البينية التي لم تهدأ يوماً، لا يسعنا سوى التنصيص على حكمة الضاد التي استطاعت بفضل معجمها وتراكيبها ومجازاتها أن توفر للقادة العرب، وهم الذين لا تعوز بعضَهم الفصاحة، ما به يغطّون خلافاتهم الحادة ويسترون تنازعهم وتنافسهم الإقليمي.

ومن أطرف "حسنات" اللغة الخشبية العربية أنها تمكّنهم من عقد القمم العربية، بشكلٍ منتظمٍ، ولكن دون الخروج بأية نتائج سوى هذه الخطابات التي يبدع كاتبوها في تصوير الواقع العربي كما لو كان ملتحماً في حين أنه عميق الشروخ. وتجدر هنا ملاحظة الفرق بين الخطباء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين الذين كانوا يبدعون في ارتجال الخطابات تخفيفاً للأزمات، وبين الخطابات الحالية التي صارت تصاغ بشكل مسبق وتميل إلى التقنية والجفاف.

ولعل المفارقة تكمن في أن اللغة الدبلوماسية تطوّرت في الضاد من ناحية الدقة والفاعلية والثراء. وفي نفس الوقت، ازداد سوءُ استخدامها، إما بعدم توفّر كفاءات تواصلية لدى السياسيين أو باستعمالها ضد "الأشقاء" قبل أي طرف آخر.

المساهمون