بيان ضد الأكاديميا البريطانية: تحرير الفلسفة من الاستعمار

بيان ضد الأكاديميا البريطانية: تحرير الفلسفة من الاستعمار

23 يناير 2017
(فولتير، تمثال للنحات جان أنطوان أودون)
+ الخط -

عرفت العقود القليلة الماضية ظهور موجة اعتبرها البعض محاولة لتحرير الأكاديميا الغربية من التاريخ الاستعماري، من خلال إدخال دراسات جديدة في الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والتربوية والتاريخ والعلاقات الدولية، وفوق كل هذا الاهتمام بدراسة آداب أمم الجنوب.

تفاءل أكاديميون أوروبيون قلائل بأن هذه الدراسات قد تكون نوعاً من إعادة التفكير والوعي بالذات وإعادة توجيه المواضيع في ضوء تعقيداتها السابقة. لكن الطريق طويل أمام الفلسفة السياسية الأوروبية لكي تتحرّر من نفسها وآبائها، ومركزيتها. يبدو هؤلاء الأكاديميون المتحمّسون هنا وهناك، على شيء من السذاجة إن اعتقدوا أن الدراسات الجديدة - ثقافية كانت أو عولمية - انبثقت فعلاً من وعي بالذات وإعادة نظر في الماضي الأكاديمي المستمر الذي بُني على أكتاف فلاسفة ومفكري الكولونيالية.

في المقابل حاول مفكرون وروائيون وشعراء من الجهة الأخرى، فتح منفذ في هذا الجدار، وأصبح كثير منهم مرجعية في نقد الكولونيالية ومن بينهم: تشينوا أتشيبي، وفرانز فانون، وجوليوس نيريري، وإيمي سيزار، وإدوارد سعيد، ووالتر رودني، ونغوجي واثيونغو، وألبرت مِمّي، وإيفان فان سرتيما، وتشارلز مان، وراناجيت غوها، وإدواردو غاليانو، وآشيس ناندي، وماري باتيست.

وفي سياق محاولات تحرير الأكاديمي من الاستعماري، دعى اتحاد الطلبة في "سواس" (كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن) مؤخراً، الإدارة إلى استبعاد دراسة الفلاسفة والمفكرين "البيض" من المناهج، لتنسجم الجامعة مع توجّهها والاسم الذي تحمله، ومن بين هؤلاء الفلاسفة أفلاطون وديكارت وكانط وفولتير وكل من يطلق عليهم فلاسفة التنوير.

وطالب الاتحاد "ألا يتم التطرّق إلى هؤلاء إلا اضطرارياً، ومن وجهة نظر نقدية فقط تعترف بالسياق الاستعماري الذي كتبت فيه أعمالهم"، حيث أوضح في بيان أصدره أنه يسعى إلى دراسة هذه الفلسفة داخل الجامعة بوصفها "الإرث التأسيسي والإبستمولوجي للكولونيالية"، وهي خطوة بهدف "تحرير سواس من الاستعمار" المعرفي، وكذلك تحرير الفلسفة من الاستعمار الأوروبي.

واقترح البيان الذي حدّد "الأولويات التعليمية" التي سيسعى الاتحاد إلى تحقيقها في 2017، أن يكون معظم الفلاسفة الذين يجري تدريسهم في برامج الجامعة المختلفة قادمين إما من "جنوب العالم" أو من أصول جنوبعالمية ويعيشون في الشتات.

"سواس" على لسان ناطقتها الرسمية، ديبورا جونسون، علّقت بشكل دبلوماسي معتبرة أن ما يميّزها كجامعة أنها تدرس كل منطقة من وجهات نظر متعدّدة، وتركّز على وجهة نظر مفكري المنطقة نفسها.

من جهة أخرى، كانت مؤسِّسة رابطة "الأكاديميون البريطانيون السود"، ديبورا غابرييل، قد تحدّثت في مقابلة مع صحيفة "إندبندنت" البريطانية مؤخراً، معتبرة أن الطلبة يسعون إلى نقاش أكثر تنوّعاً من الناحية الثقافية، يعكس تطلعاتهم وتوجّه الجامعة، ويسائل الروابط المعرفية بالاستعمار. واعتبرت أن أي منهاج يتمتّع بالديمقراطية الثقافية لا بد أن يعكس كافة وجهات النظر من زاوية نقدية، في حين أن ما يحدث حقيقة هو أن المناهج التعليمية توضع وفقاً لمعايير ضيقة، ولا تأخذ كافة السياقات الثقافية بعين الاعتبار.

لكن استبعاد الفلاسفة الأوروبيين من الدراسة، يقتضي استبعاد تاريخ مؤسس للفلسفة، كما لا يعقل -في حال تحققت مطالب الاتحاد- أن يكون بالإمكان انتقاد فرضيات فلسفية ليست مطروحة للدراسة أصلاً، لذلك فإن "البيان الثوري" الذي أطلقه الطلبة فيه من المبالغة بقدر ما فيه من وجهة نظر مُحقّة، ولا يمكن في سياق أكاديمي موضوعي ومتعدّد المصادر، أن تتضمن الدعوة شكلاً من "العنصرية المضادة" نحو جزء كبير من المعرفة التي تدخّلت في تاريخ الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة في آن.

المفكّر البريطاني روجر سكروتون كان قد علّق على بيان الطلبة، ووصفه بأنه يدل على "جهل"، وأضاف صاحب "مفكرو اليسار الجديد" إنه لا يمكن استبعاد جهد فكري قبل التحقق منه والتحقيق فيه، ولا أعتقد أنهم تحققواً جيداً مما تعنيه "الفلسفة البيضاء"، وإن كانوا يعتقدون أن ثمة سياقاً استعمارياً انطلق منه كانط لكتابة "نقد العقل الخالص" فإنني أود سماعه".

هذه ليست المرة الأولى التي تُطلق فيها مطالبات طلابية في بريطانيا تعبّر عن نبذها لتاريخ البلاد الاستعماري، فقد رفضت جامعة "أوكسفورد" العام الماضي دعوات اتحاد طلبتها بإزالة تمثال سيسيل رودس (1853-1902) من كلية أوريل، أحد أبرز الشخصيات الاستعمارية البريطانية في جنوب أفريقيا، مؤسس De Beers الشركة التي تملك أكبر مناجم الألماس، والتي كانت حتى وقت قريب مسيطرة على 90% من سوق الألماس في العالم. وبدلاً من أن يرتبط اسمه بالضحايا الذين قضوا في مناجمه أو جرائم الاستعمار، يرتبط اسمه بمنحة دراسية رفيعة تقدّمها أكسفورد التي درس فيها.

مقابل ذلك، استجابت جامعة كامبريدج العام الماضي لاحتجاج طلبتها على وجود تمثال برونزي نُهب خلال الحملة الاستعمارية البريطانية على نيجيريا في القرن التاسع عشر، مطالبين بإعادته إلى موطنه، وقامت الجامعة فعلاً بإزالة التمثال من حرمها.


كواليس إرضاء الطلبة

تأتي مطالبات اتحادات الطلبة في الجامعات البريطانية المختلفة مؤخراً، بعد توجه حكومي إلى إدراج تغييرات جذرية يعزّز من دور الطلبة في ما يدرسون ويساند رأيهم فيه، الأمر الذي اعتبر مراقبون أنه يؤسّس لثقافة خطرة، حيث تمنح سلطة لمطالب ورغبات الطلبة حتى وإن شطّت. الجامعات تخشى من لحظة تكون فيها مسلوبة الإرادة، إذ أصبح من الواضح أن السياسات تتجه إلى أن إرضاء الطلبة هو المفتاح، فهم أيضاً زبائن في بزنس الأكاديميا.

المساهمون