كتابة الكورونا

كتابة الكورونا

23 ابريل 2020
تمثال للشاعر لوركا في مدريد (كارلوس ألفاريز، Getty)
+ الخط -

يُروَّج في بعض الكتابات النقدية أنَّ الأدب لا ينبغي له أن يقتصر، أثناءَ صياغة نصوصه، على استلهام الماضي بتاريخه وقضاياه وتجاربه، أو أنْ يُركِّز على الحاضر بمشاكله وتطلعاته، بل الأولى به أنْ يأتي من المستقبل أيضاً؛ باستشرافه حالات وعوالِم محتملة، هي بطبيعة الحال قريبة من كتابات الخيال العلمي، لكنها كتابة لا تخضع لمنطق أدب الخيال العلمي، لكونها تصدر عن همٍّ إنساني صرف، كتابة لا تُركّز على الاختراعات العلمية بتاتاً، بقدر ما تحفر في النفس الإنسانية عبر الكشف عن طبائعها في تخيُّل عجائبي لسياقات اجتماعية وظروف إنسانية محتمَلة، قد تُصادف الإنسان مستقبَلاً.

ويبدو لي أن البرتغالي جوسيه ساراماغو، في روايته "بحث في العمى"، التي تُرجِمت إلى العربية بـ"العمى"، من الروايات الرفيعة التي اجترحتْ هذا الأدب الذي يأتي من المستقبل لِيُضيء سبل الحاضر، في تجربة لا تخلو من واقعية ومصداقية؛ هي في عمقها شبيهة بالحال التي يعيشُها العالم منذ اندلاع جائحة كورونا مع بداية 2020، لأن شخصيات "بحث في العمى" كانت الأُولى التي أُصيبتْ بالعمى الأبيض، ففُرِض عليها الحجر الصحي في مَرِستان، قبل أن تستشري العدوى في المدينة بشكل مرعب، كاشفة عن عالَم بشري فظيع، تُحرّكه الأنانية وغريزة البقاء التي تُنسي الكثيرَ من البشر إنسانيتَهم.

لكنّ الملاحَظ على هذه الشخصيات هو أنها لم توثِّق بالكتابة لمعيشها القاسي ذاك، في المَعزَل المفروض عليها، لأنها كانت في صراع دائب من أجل استمرارها في الوجود، بخلاف ما يُلاحَظ على كُتّابنا هذه الأيام، الذين يُقيمون خلالها في الحجر الصحي المنزلي، وقد أتاح لكثير منهم الفرصة، أكْثرَ من أي وقت مضى، للتفرّغ إلى الكتابة والإبداع فيها تحت عناوين متنوعة.

وبغض النظر عن الصُّحف، التي يظهر فيها عادة مقال أو عمود أسبوعي لكاتب بعينه، فإن فضاء شبكات التواصل الاجتماعي، التي يتربع فايسبوك تحديداً على قمتها، أضحى مجالاً خصباً للاطلاع على كتابات ذات صلة بفيروس كورونا، بشكل ما.

وفي الحال المغربية، تُحافظ كاتبة القصة المغربية فاطمة الزهراء الرَّغيوي، المقيمة في باريس، على إيقاعها الإبداعي بنشر نصوص يومية عنوانها "يومياتُ الحجر"، وهي نصوص ذاتية، تحتكم فيها إلى تجربتها الخاصة، في علاقتها بالناس والأشياء والقراءة وبعض الأحداث، كل ذلك في ارتباط مع أجواء الحجر الصحي، فمن بين تدويناتها الأخيرة: "يقول المثل الأفريقي إن الغباء موزع بالتساوي بين الناس. ويبدو لي أنه يزداد لدى من يغلق على نفسه في ما يعتقد أنه يعرفه. هكذا، يمكن لطبيب متخصّص في مجاله أن يعتبر قارة بأكملها مختبراً للتجارب مستشهداً بالاختبارات ضد مرض الإيدز، التي أجريت على بائعات الهوى، كأن هاته النساء لا قيمة لهن وهن الأجمل والأشد هشاشة وقوة في آن. ولن أدافع عن أفريقيا وسكانها فهم أعلى من دفاعي... مثل هذا "الذكي" كثُر. أذكياء حتى فاض بهم الغباء. التقيتُ الكثير منهم في كل مكان كنتُ فيه. فليس الغباء خاصية جماعة ما".

بينما يُفضّل الناقد والمترجم رشيد الأشقر كتابةَ سلسلة حلقات عنونها "يوميات الكُوارِنْطِينا [الأربعينية]"، التي تنحو منحى مختلفاً، لاجتراحها النبش في هوامش الحجر الصحي، كالعلاقة الغرامية، في أجواء الجائحة بين عشيقين عجوزين؛ الألماني كارستن توشن هانسن (89 سنة)، وعشيقته الدنماركية إيغنا راسموسن (85 سنة) في لوحة جميلة، تُقدِّم الحبّ بصفته قوة تطوي الزمان والمكان، وتُلغي الأعمار والمصادرات، التي توهم بأن مرحلة الشيخوخة لا أفق لها غيرُ انتظار الرَّحيل. يفتح العجوزان بحبّهما النبيل ثغرة في سور المواضعات الاجتماعية، التي هي في أساسها ثقافية، وليست طبيعية بالضرورة.

كما يستعرض رشيد الأشقر قضايا تخصّ الفن في زمن الكورونا، فيلتقط حادثة عرفتها أوغندا، بخصوص أغنية تضامنية "في مثل هذه البلاد، هم لا يُميّزون بين "حملة" غنائية لمكافحة "كوفيد 19"، وبين "بروباغندا" سياسية مبيّتة لزعزعة نظام الحكم؛ تماماً، كمن لا يُفرّق بين الحركة الأولى من السيمفونية رقم 40 لموزارت، وبين بطيخة "كانتالوبية" من بلاد المكسيك.

هذا ما يستشفه المتابع وهو يُطالع خبر حظر الحكومة الأوغندية لـ"أغنية" أنجزها الموسيقي والمعارض السياسي بوبي واين (38 سنة)، في موضوع التحذير والتوعية بخصوص وباء الكورونا، وهي الأغنية التي تداول سماعها أكثر من نصف مليون شخص، منذ إطلاقها في 25 من شهر آذار/ مارس الماضي، على امتداد نصف بلدان القارات الخمس.

ويلتقط الأشقر موضوعاً فنياً آخر، يرتبط بعالم السينما، وبطلُه هو "دافيد غيفن (77 سنة)، أحد رواد صناعة السينما بهوليوود، وصاحب استوديوهات (DreamWorks) الشهيرة، حيث فضّل قضاء فترة عزلته الصحية الإجبارية داخل "منزله". عفواً، داخل "ميغايخته" الذي يبلغ طوله 138 متراً، بخمسة طوابق و82 غرفة. فضلاً عن قاعة رياضية، وملعب لكرة السلة، وحمام "الصاونا"، وقاعة للعرض السينمائي بشاشة بانورامية. مما يجعل من هذا الهرم المائي واحداً من أضخم اليخوت الشخصية في العالم".

وتبدو حكاية دافيد غيفن شبيهة إلى حد كبير بحكاية ابن نوح النبي، الذي اعتقد بأن لوذه بالجبل سيعصمه من الطوفان، بينما هو في الحقيقة كشف عن الأنانية المفرطة، التي لا يُمكن التخلص منها بتاتاً إلا بالتربية على التآزر والتعاضد، وليس بشعار "أنا وبعدي الطوفان".

ويندرج هذا النص ضمن "كتابة الكورونا" الزاحفة بقوة على المشهد الأدبي، الذي تزخر به فضاءات التواصل الاجتماعي، وربما سيأتي اليوم الذي ستُدرَس فيه أجناسُ هذه الكتابة، نظراً لتنوعها، ولارتفاع منسوب الإبداع فيها أحياناً.

أما الكاتب المغربي محمد الفتوح، المقيم في إسبانيا، والذي يكتب القصة والقصيدة وغيرهما، فقد هبَّ إلى رصد أحوال بلدته في نصوص سماها "أيام الحجر"؛ والتي على الرغم من اكتناف الحزن لبعضها مثل قوله: "البلدة كأنها فيلم صامت، لا أحداث ولا أشخاص فيه. كاميرا مثبتة على مشهد واحد. شوارع تصفر الريح فيها، وصمت يقطعه زعيق سيارات الإسعاف، أو دوي دوريات الشرطة والوقاية المدنية التي تذكر السكان بالالتزام بالبقاء في بيوتهم. حتى الكلاب صمتت عن النباح"، فإنَّ ما لا يخفى على قارئ نصوصه هو كوْنُها مفعمة بنبرة الفرح، وأنها تَنْضح أملاً، كقوله "رذاذ منذ الفجر حتى هذه اللحظة. قبل قليل، أي في السادسة صدحت موسيقى أغنية Resistiré [سأقاوم] من بلكون قريب. فتبعها ابني وزاد في صوت مسجلته. كل الجيران تقريبا خرجوا للرقص والفرح. الأطفال بين أياديهم لا يعرفون ما الذي يحدث".

لا يخفي محمد الفتوح قلقَه من هذه اللحظات الحرجة، التي يعيشُها مثل باقي الناس، لكنه يجد ملاذاً له في القراءة، التي تغدو سلاحاً فعالاً يواجه به تربُّص الوباءِ بالذوات، وينتصر بها على الملل. يكتب: "في الليل أستفيق بعد ساعة أو ساعتين من النوم. أخبار الوباء سيئة. يسرح خيالي في معنى الوجود والفناء. في الله والتاريخ والإنسان والموت والحياة. سفر لا حدود له. أسئلة مقلقة للذهن. فجأة، يقفز العبقري نجيب محفوظ في رائعته ملحمة الحرافيش، وبالضبط حكايتها الأولى. عاشور الناجي الذي يأتي قادماً من المجهول بعد نجاته من الوباء".

كتابةُ الكورونا كتاباتٌ، أي أنها أجناس، كتابةٌ يحضر فيها المعيش الحقيقي بقوة، أي تحضر فيها الذات وظروفُها، تلك الظروف تكون حاسمة في بلورة أسلوب الكاتب ووعيه ورؤيته، بل تحدِّد ذاتَه؛ أي "أَناه"، تلك التي عرَّفها الفيلسوف الإسباني أورتيغا إِي غاسيت بقوله عنها في تأملات الكيخوطي: "أنا هو أنا وظروفي، وإذا لم أُنقِذْها، فإنني لن أنجو أنا أيضا".

ولعلّ هذه الخاصية الوجودية الحادة هي أكبر مميِّز لهذه الكتابة القادمة من المستقبل، لأنها تنبّه إلى ضرورة استعادتنا لإنسانيتنا، التي أعمتْها الرأسماليةُ باقتصادها المتوحش، الذي صيَّر كل شيء في الوجود سلعة. إنها كتابة حلَّت في وقتها لتشرع في بناء وعي جديد، تسودُه قيَم أصيلة، ولكنها ستحتاج لاحقاً إلى مزيد من التأمل والمُدارَسة بعد انكشاف الغمة. ولعلّ في النماذج أعلاه ما يشي بتميُّزٍ يطبع هذا الصنف من الكتابة الأدبية، التي لم تعد تصدر في كتاب ورقي، بل اتخذتْ صفحات التواصل الاجتماعي منصة، وتلك لعمري خاصية مهمة تَسِمُها أيضاً.

المساهمون