جئت من الجبال وإلى الجبال أعود

جئت من الجبال وإلى الجبال أعود

27 فبراير 2019
زاو وو-كي/ الصين
+ الخط -

فقط لأنّ
لتغرس هاتَين القدمَين
عميقاً في هذه الأرض.
وليجرِ بطيئاً كلُّ دم عروقنا
في المكان الذي يمنحنا نعمة الدم!

لتتدفّق الضحكات فوق أصواتنا
ولننقَع بدموعنا هذه الملابس السوداء!
لنصرخ بأعلى أصواتنا
ولنصرخ بلا قيود
لنصرخ كالأغبياء!
(فقط لأن هذا الجزء من البلاد
هو بلادنا نفسها)
لنتأمَّل كلَّ رجل يعبّ الخمر في قدح من خشب
ملوّن بالأسود والأحمر والأصفر.
وحينما يبلغ الشراب مبلغه
لن يستطيع الغريب أبداً دوس
قنّة رؤوسنا بأقدامه الوقحة.
لننظر إلى أيّ امرأة،
حين تأخذها الشهوة،
تتكلّم من خلال المزمار أو الورقة الرقيقة!
وإذا غلبَنا التعبُ،
فلنتمدّد على طول أحلامنا،
لننام نومة أهل الكهف.
(فقط لأن هذا الجزء من البلاد
هو بلادنا نفسها)


■ ■ ■


مناجاة المزمار
أنا المزمار
المعلّق دائماً في عنقه،
من طفولته السعيدة
إلى ساعات الشيخوخة الوحيدة.
أنا المزمار
الذي علّقه القدر
على بوّابة قلبه.
يصب من خلال ألحاني
أحزانه وأفراحه
في العتمات.
أنا المزمار.
إذا دقّت ساعته يوماً
ليترك عالم الأحياء،
أتمنى أن أصاحبه أخيراً
لتنصهر كلّ أناي
في التراب البارد والمظلم.
وعلى كلّ حال، يا إخوتي، إذا جاء يوم بليل بهيم،
والحزن منبعث من هذا المضمار
تشعرون به عندكم
اعلموا جيّداً، أنني مازلت أحزن.


■ ■ ■


إلى نفسي
إذا لم تكن ثمّة طريق تمرّ من هنا
فهذا لا يعني أنّنا لا نحنّ إلى البلاد.
وإذا لم تلمع فيه النجوم
فهذا لا يعني أنّ الحنان ضاع.
وإذا لم يذرف الناس فيه الدموع
فهذا لا يعني أنّ الحزن غير موجود.
وإذا لم تنم الأجنحة لبعض الأشخاص
فهذا لا يعني أن الكذب غير موجود.
إذا لم تكن ثمّة نهاية
فهذا لا يعني أنّ الموت لن يزورنا.
لكنّ الأمر الأكيد:
إذا لم أكن من قوم ليانغشان الكبير
فلن أصير الشاعر الذي هو أنا الآن.


■ ■ ■


كلمة مدفونة
أبحث عن
كلمة مدفونة
تعلمون جيّداً
أنّها من ماء الرحم،
زعانف أسماك تلمع في المياه المعتمة.
الكلمة التي أبحث عنها
نجمة تلمع في الليل كالذهب في القبّة الزرقاء
وفي ما وراء السماوات.
حيثما حطّ نظر الرائي
ثمّة ظلّ عصفور يطير في السماء.
أبحث عن كلمة
هي نار الكاهن الحالمة.
تعرف استحضار روح القدامى الذين رحلوا عنّا
والالتحاق بروح الأشياء كلّها.
أبحث عن كلمة
مدفونة.
إنّها رمز باطنيّ
تورّثه اللغة الأمّ
لأبناء شعب الجبال.


■ ■ ■


صورة الخريف
في سكينة الغروب،
يستلقي الخريف على ظهره ويصير شريط تراب
تتمدّد أطرافه الأربعة شيئاً فشيئاً.
الشمس أحرقت قبلتها الأخيرة
على حواشي بشرته البرونزية.
سرب طيور الشمس يختال
ويرقص فوق أهدابه.
وبينما الريح تلاطف قمراً حالماً لكي يرنّ
تبقى أقراطه متدليّة من أغصان الشجرة العالية.
استيهامات السماء تسقط كأوارق الشجر
وتملأ كلّ مسامات الأرض.
دموع البحيرة الحرّى فوق النجاد
تبلّل العيون.
ربما هو الأيل العوّاء يمشي في هذه الأرض
راقصاً على حوافره الأربعة،
وساكناً دقّات قلوبنا.
الشعر غابة مسحورة،
والأنف مغارة.
الدجاج الحبشيّ ينقنق في الأذن.
في الفتحة بين الشفة السفلى والعليا
يقفز النمر متخطّياً الوادي المرتعش.
روائح طيّبة مدوّخة تذوب في الهواء حول الجسد.
المذاق الحلو لتوت الأرض.
الرائحة اللاذعة للحم الغزال.
وهكذا، في باطن هذه الأراضي،
وهناك تحت النجوم،
يوجد حلم هذا القميص على شكل غيوم صغيرة،
يُعلّق فيها مزمار من الذّهب.


■ ■ ■


شمس روما
شمس دوّارة، شمس معذّبة
شمس تريد ألف مرّة أن نُعجَب بها
باحثة في عيون الربّة
عن أنشودة الصخر حيث تتدفّق الأمواج،
قولي لي، أتوسّل إليك، قولي لي
هل من شيء تكوّن في هذا البحر الشاسع.

شمس مائية، شمس بمفاهيم عديدة،
شمس تدعو الأرض وكلّ الكائنات إلى الحلم،
قبيل أن يرخي الليل ستائره
حيث يسقط كل شيء في النسيان.
قولي لي، أتوسّل إليك، قولي لي،
أين نستطيع أن نجد شريط نوم أصفر باهت؟

شمس لا تُحدث أي صوت، شمس تنتمي إلى الروح
شمس تمرّ من خلال الزمن ومن خلال الفراغ
شمس تتحوّل إلى أصابع تمسك
كلّ جذيرات الأرض
لتجعلها تبتلع ماء الحياة الزلال،
قولي لي، أتوسّل إليك، قولي لي،
أين يمكن أن نجد قطعة أرض سرياليّة؟

شمس غامضة، شمس أثيريّة،
شمس تبحث عن ملجأ لكلّ الأرواح،
صدى بعيد خفيّ،
شيء مثل صوت خطوات الربّ
وهو يستعد للهبوط على أجنحة متلألئة،
قولي لي، أتوسّل إليك، قولي لي،
هل يمكن أن نجد هنا امتداداً للقبّة الزرقاء المقدّسة؟


■ ■ ■


جميل دائماً، اللّون الأصفر
الأمر يتجاوزني، ولن أستطيع التعبير بالكلمات
عن هذه الحرارة التي لا تعرف الحدود،
وهذا الامتداد الناعس للألوان.
الأمر يتجاوزني، ولن أستطيع أن أشرح بوضوح
لماذا تحثّ الناس على الصمت طويلاً.
آه أيها الصوت العجيب،
أيها اللغة التعليميّة،
سامحيني، لأنّ كل ما استطيع أن أقوله لك
في هذه اللحظة الخالدة،
إنّك لن تستطيعين تغييري!


■ ■ ■


أريد أن أقول لك
أريد أن أقول لك،
ديجيشالو، مسقط رأسي،
أنت البعيد جدّاً، أنت الذي لا حدود لك،
أنّك معلّق وسط الغيوم البيضاء
وأنّك هكذا تعانق الشمس.

أُريد أن أطلب منك،
ديجيشالو، مسقط رأسي،
ألّا تسمح بأن يأخذوني، إذا متّ،
إلى محرقة خارج مدينة،
خشية ألاّ تنجح واحدة من ذكرياتي
في الهرب، وألاّ توفّق في العثور
على نافذة تتنفّس من خلالها.

أريد أن أقول لك،
ديجيشالو، مسقط رأسي،
أن هذه الألحان الحالمة
تلحق كلها بنهر يجري.
وأنتم أقربائي البعيدون، الآن،
احملوا جثّتي الفانية
بعيداً عن هذا المكان الغريب عنّي.

أريد أن أقول لك،
ديجيشالو، مسقط رأسي،
أنّني جئت من الجبال،
وإلى الجبال يجب أن أعود.
العالم شاسع جدّاً،
ومع ذلك، ففي ضمّتك العطوف وحدها
تستطيع روحي أن تجد الراحة الأبديّة.


■ ■ ■


تماثيل في هذا الجزء من البلاد

(إلى أختي التي تركت البيت لتتزوّج)

الشمس عيني.
وظل عمودي، أسود مثل الكهرمان،
وجهاً لوجه مع الضوء، يُذكّرني بشكل الجبل،
لأنّه ظهر الرجل الذي تتّكئ عليه خاصرة أختي.
إنّه حلم منسوج من خيوط صوف خشن
يختفي بسرعة تحت القبّعة.

دموع تتلألأ في عيون الفتاة الصغيرة، وعرق يقطر من ظهر الرجل.
والهواء يزمّ شفتيه ليقبّلهما.
وفي أقاصي هذه البلاد الصغيرة، عذاب الآلهة.
يا أختاه، إبرتك ترسم رجلاً مدثّراً بالأزرق،
لأنّك لم ترَي أبداً وجهه.

القبّعة ليست بالضّبط سطحاً ثابتاً للرسم.
والتصاوير المفعمة بالخوف تترك آثاراً عبثيّة
في سوناتة الشمس الذهبية.
أسمع نداء الصخب آتياً من الجبال العظيمة.
فتاة صغيرة تنام نوماً عميقاً فوق كومة تبن
أمّا ظلّها فلا يتنازل عن ألفته.
ذكريات عطرة رقيقة، وضوء القمر
مرتّب في قاع الجراب المطرّز.
وحتّى لو هبّت فجأة العاصفة في آخر الليل
فستبقى ابتسامة الفتاة الصغيرة طاهرةً إلى الأبد.
يزرع الحبّ الرياح في هذا الجزء من البلاد،
آه مثل أطراف سياط الرعاة التي تصبح ساحرة ومغرية
عند سقوط الليل!
وتحافظ أنت على مظهرك الطفوليّ مثل حمل
تحت مظلّة صفراء ومزمار يسرّ بخباياك إلى الجداول.
كنت تقف معتزّاً بنفسك كالشجر.
وكانت الشمس تعمّدك بالسواد.
وكان حبّك إذن ينتمي إلى هذا الجبل العظيم
وإلى جزء من هذا البلد نفسه.
وحيداً كنتَ أنت وهذا الصياد البريء
تعرفان باطن الشمس والقمر.
ومنذئذ سيرجع لنا صدى طلقات الرصاص في الغابة
لكنّنا لن نرى أبداً هروب الطرائد.
وسينفّس الصيّاد عن غضب حبّه المفقود.
وفي هذا المكان الميّت،
احترق الكحول وغنّى في شريانه.
فقذفت عيناه بالبروق وانقطعت أنفاس الغابة.
وكل فرجات الغابة الصغيرة،
أسمعت رنين أفكاره المتحمّسة.
يرى من أعلى رابية،
هوسه حاملاً البندقيّة على كتفه،
لكنّ أجنحة تنقضّ عليه من السماء الزرقاء،
وتفتح في الوقت المناسب أبواب قلبه النبيل.
الرصاصة والمسدّس نفسه يتدحرجان نحو الأسفل.
وكان للشمس في عينيه بهاء الدم.
وللمكان بريق النار.
وبينما كانت الألوان الهاربة تتبدّل من حوله،
كان الحب يلبس بذلة الخلود.
وكانت الشمس تعتلي السروج.
والقبّرات المحلّقة عالياً في السماء ترسم أقواس الأغاني.
صلباً، كان ظهر هذا الرجل الذي يحمل هذه الفتاة البئيسة.
كان هذا الجراب المطرّز المثلّث
يحوي قطع قمر مكسورة.
وفي المكان المعزول، كلّ شيء خيال،
فيه سندفن ساعات شبابنا.
لكن هنا فوق هذه الأراضي السمراء
أشياء كثيرة لن تنساك.
ولو استعملت وحل نعالي،
سأرسم وجهك بورع.
من أجل حلم فتاة صغيرة مخضّب بالأزرق
وببندقيّة صيّاد تائه.


■ ■ ■


إلى الوطن
وطني عملاق شرقيّ بأطراف هائلة.
على الأرض الصفراء يتدفّق ذهب
تيارات أنهاره الأبدية.

وطني
يتزيّن بطبقات اللون الأزرق الصافي
في لون سمائه وبحره.
إنّه عصفور منقّط بقطرات ذهب
تلمع وتبرق فوق جناحيه
حينما يعبر التماعات الفجر الأولى.

وطني، وأنت تكبر في ظلال الأساطير،
وفي هذه الشجرة ذات الأوراق البرونزيّة،
كانت آلاف النغمات تُسمَع من بعيد.
وطني، لم ينتم أبداً إلى مجموعة إثنيّة محدّدة،
لأنّ عدد أطفاله خمسة وستّون،
ومجموعتي الإثنيّة، واحدة من بين الخمسة والستّين،
تنتمي دوماً إلى وطني.

هذه الحكاية هي حكاية وطني،
ولا يجب أن تختزل طوعاً
مهما كانت الفقرات التي تؤلّفها
عظيمة أو مخجلة،
لأنّ حكاية وطني
قصة عظيمة بامتلائها.
حينما يدفعوننا إلى مديح سلالة التانغ،
لا يجب أن ننسى الحدود البعيدة للمغول.
وحينما نعود في الأحلام إلى سلالة سونغ العاشقة للغناء
محاولين اكتشاف سرّ القوّة في كتابتها،
سيكون من ذهاب الفطنة التنكّر لنجاح سلالة كينغ
وموهبتها الحماسيّة.
حينما أحكي قصة الوطن،
أراه كاملاً لأنّ كلّ ما تمثّله هذه الفترات
كان جزءاً من جسد وطني الفيزيائي
الذي لا ينبغي أن يُقسّم.

وطني، وأقولها لك بإصرار،
أعرف أنّ اختيارك، حينما يأتي اليوم الحسم،
ويكون عليك أن تختارنا، لن يكون بالتأكيد سهلاً.
الحسابات الجهوية، والحمولة الثقافية، ستدخل على الخطّ،
وليس فقط لأنّنا ننحدر من مجموعة إثنية بعينها.
لا تجعل أيضاً من انتمائنا لإثنيّة ما سبباً
لترفض منحنا فرصة للتنافس الشريف.
وطني، أتمنّى أنّ ولاءنا لك
الذي يظهر مئة وجه سيمنحنا في آخر المطاف،
ثقتك المطلقة.
وطني
أثبتت أنّ جمال قدّاسك
توحيد للغات التي يتكلّمها ستة وخمسون شعباً.
وإذا لم يستطع أحد المغنّين الالتحاق بالآخرين،
فسيكون هذا الانسجام العظيم ناقصاً.

وطني، أثبتت أنّ جمال تراتيلك،
بابل لغات يتكلّمها ستّة وخمسون شعباً.
وإذا تعذّر على أحد المنشدين الالتحاق بالآخرين،
سيكون هذا الانسجام الأكبر ناقصاً.
صوت مجموعتي الإثنيّة خير مثال على ذلك.
إنهّا تأتي ربّما من منطقة حدوديّة بعيدة،
لكنّها موجودة، رغم كلّ شيء،
ووجودها ضروريّ إلى الأبد،
مثلها مثل الكتابة القديمة لأقليّة يي
وجُماع أثارها المكتوبة،
يؤلّف بابا في ديوانك الشهير
مفخرة إثنيّتنا.
وطني، أتوسّل إليك أن تسامحني
على جسارتي وصراحة الشاعر فيّ.
أتمنّى أن يكون ما تستحسنه فيّ
ليس أقلّ من خصالي الإنسانيّة،
وأنّك تجد فيّ رفعة الإنسان الذي تنعدم فيه الأنانيّة والحقارة،
وأنّ عقلي في خدمة الشعب والأمّة
خدمة لا تقدّر بثمن متجذّرة في كينونتي
ولا يخفيها عنك أحد.

وطني، آمل أنّ الخصال التي تستحسن فيّ
لن تكون أقلّ من ولائي لك،
كما هي قطرات الدم التي تجري في عروقي
تأتي من قلب واحد يدقّ يدقّ،
لأنّ ليس فيه إلاّ وطن هو أنت.


* شاعر صيني من مواليد 1961

* ترجمة جلال الحكماوي

المساهمون