قصّة إيران القصيرة وشقاؤها الطويل

قصّة إيران القصيرة وشقاؤها الطويل

01 يناير 2015
جمال زاده يتوسّط المؤرّخين إيرج أفشار ومحمد إبراهيم بستاني
+ الخط -

قبل نحو قرنٍ من الزمن، وُلدت القصة القصيرة الفارسية، جرّاء عوامل تقنيّة بحتة، ليست مرتبطة كثيراً بالسعي نحو خلق فنّ جديد. في عشرينيات القرن الماضي، أعلنت دور النشر والمطابع في إيران عدم قدرتها على تحمّل كلفة طباعة الروايات الفارسية إثر أزمة حادة ألمّت بقطاع الطباعة في البلد الذي تخلّف ولم يواكب حداثة نظرائه في بقية البلدان، وخصوصاً الغربية، فضلاً عن غياب القارئ، والتراجع السريع لحركة الترجمة، وغزو الأدب الآتي من أوروبا والمطبوع في دور نشر حديثة خارج البلاد.

أمام هذه التحديات، استسلمت الرواية الفارسية التي كانت تعاني قصوراً واضحاً في التقنيات الأدبية وصناعة الشخصيات مقابل ما يأتي من ترجمات للأدب الغربي. حينها، خرج محمد علي جمال زاده (1895 ـ 1997)، وقلب الطاولة بنشره أول مجموعة قصصية له عام 1921، ضمت ست قصص قصيرة بما لا يتجاوز تسعين صفحة، كُتبت بلغة جديدة تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن لغة الشارع. بصعوبة، أقنع جمال زاده صاحب إحدى المطابع التي كانت على وشك الإفلاس بنشر مجموعته التي حملت عنوان "كان يا ما كان". لاحقاً، اعتُبرت هذه المجموعة بأنها بداية القصة القصيرة الفارسية في إيران كشكل أدبي مستقل.

منذ ذلك اليوم والقصة القصيرة الفارسية تعاني إشكالية البدايات، كونها رأت النور عبر عملية قسرية جاءت ردّاً على فشل ذريع أصاب فن الرواية في عصرها الأول. انتشرت قصص جمال زاده بسرعة بين الإيرانيين، وبسرعة أيضاً انهالت عليها سهام النقد؛ إذ اعتبرها روائيو ذلك العصر مسخاً أدبياً أطاح بقدسية اللغة وسِيَر ملوك الفرس لصالح أبطال فقراء جاء بهم جمال زاده من أزقة الأرياف.

كان على جمال زاده أن ينتظر نحو 13 عاماً كي يأتي مَن يدافع عن القصة كنمط أدبي يستحق الحياة. لم يكن ذلك الشخص سوى بزرك علوي (1904 ـ 1997)، الذي بشّر عملياً بعصر الرّواد الأوائل من كتّاب القصة في إيران. اتّخذ علوي موقفاً حازماً حين أعلن تخلّيه نهائياً عن كتابة الرواية، مُنحازاً للقصة القصيرة، ليصدر مجموعته الأولى عام 1934 بعنوان "الحقيقة"، التي صُنّفت لاحقاً بأنها بداية لانتصار القصة القصيرة في البلد، إضافةً إلى تأريخها لانحياز القارئ الإيراني لصالح هذا النوع الأدبي الجديد.

هذه البداية وضعت الروّاد الأوائل أمام مواجهة كبرى، ما اضطرهم إلى رفع السقف عالياً عبر إنتاجٍ قصصي شكّل ثورة أدبية متكاملة أنتجت أدباً بات من الصعب على أجيال الكتّاب، خصوصاً الشباب، تجاوز لحظة الانبهار الأولى به. الحديث هنا عن صادق جوبك (1916 ـ 1998)، ومجموعته "الدمى"، (1945)، وصادق هدايت (1903 ـ 1951)، صاحب "البومة العمياء" و"ثلاث قطرات من الدم"، ومَن جاء بعدهما كجلال آل أحمد وإبراهيم كلستان في مجموعته "شهر آذار آخر الخريف"، (1947)، وجمال مير صادقي وبهرام صادقي وهوشنك كلشيري ورائعته التي حملت عنوان "دائماً"، (1969).

وحتى يومنا هذا، يرى كتّاب القصة القصيرة من الشباب بأن ذلك الجيل هو مَن خلّص اللغة الفارسية من سطوة الأساطير وأخرج القارئ من قصور الملوك ومعابد الآلهة. وهو الفن الذي مارس النقد اللاذع بشكل مباشر اجتماعياً وسياسياً، إلى جانب إسهامه في دعم وتشكيل وعي الطبقة الوسطى في إيران، في الفترة الممتدة بين تخلّي الشاه الأب، رضا خان، عن العرش لمصلحة ابنه الشاب محمد رضا خان، وخوض غمار هذه المرحلة العسيرة، لينتجوا أدب السجون ويبشروا بثورة قادمة أطاحت بأكبر عرش ملكي في المنطقة.

اليوم، يحاول أحد هؤلاء، وهو جمال مير صادقي، (1933)، أن يقارن بين جيل الرواد والجيل الراهن من كتّاب القصة القصيرة. ويرى صاحب مجموعة "مسافرو الليل"، (1962)، في أحد كتبه الصادرة حديثاً بأن كتّاب الجيل الجديد في إيران يواجهون مجموعة تحديّات تبرز في "ضعف مخزونهم اللغوي كونه يعتمد على تقنيات كتابة تشبه إلى حد بعيد إنتاج فيلم سينمائي يسقط من حساباته اللغة الشفوية التي تشكل عماد القصة القصيرة".

ويضيف صادقي: "توصيف الواقع بدلاً من السعي إلى خلق آليات تجعل من تغييره ممكناً، يجعل من الكتابة فعلاً متأثراً بالأحداث عوض أن تكون فعلاً مؤثراً في سير الأحداث نفسها". كما أنّ صادقي يأخذ على الكتّاب الشباب "الغرق في التفاصيل عبر التأثر بشكل مبالغ فيه بنظريات علم النفس الحديث التي تجعل من السمات النفسية للشخصيات أبطالاً للحوادث على حساب حركة اجتماعية جمعية تعتبر أساساً في أي تجديد أو تغيّر قادم".

لكن صادقي، ورغم هذه المآخذ، يبقي باب الأمل مفتوحاً أمام جيل الشباب في إيران: "ذات يوم، قال لي روائي إيراني معروف: ما هذه الهرطقات التي تكتبها؟ لكنه لم يكن يعلم بأن هذه الهرطقات ستحكم يوماً المشهد الأدبي الإيراني برمته. وهذا ما أراه في هذا الجيل الذي يصر على الكتابة. فلتستمروا بالكتابة يا شباب".

المساهمون