الميادين العامة في الأردن.. تهجير متواصل للفن

الميادين العامة في الأردن.. تهجير متواصل للفن

07 فبراير 2019
(تمثال صلاح الدين الأيوبي في مدينة الكرك، جنوبي عمّان)
+ الخط -

بعيداً عن الرؤية الاستشراقية حول المدينة العربية التي تنحصر في دراسة مركزها التاريخي أو التغيّرات خلال فترات الاستعمار، كثيراً ما جرى إهمال دراسة المدينة العربية باعتبارها فضاء للعلامات والرمزيات، وكيف أن عناصرها المكوّنة وتخطيطها هي في النهاية خلاصة تفاعل قواها الاجتماعية التي تنعكس في نسق تطوّر العمران وتنظيم الحياة اليومية والسلوكيات فيها.

تعيش عمّان، مثل مدن عديدة في الأردن، خلال العقود الأخيرة، تحت تأثير السياسات النيوليبرالية التي تغيّب العدالة الاجتماعية من منظورها للمكان فلا تكترث بتطوير شبكة المواصلات العامة وحلّ مشكلات التجمّعات العشوائية وكذلك خلق فراغات حضرية في المدينة. ومن الناحية الجمالية، يسود نموذجان، أحدهما يمثل رؤية منغلقة للتراث حيث التركيز على شكل التصميم الذي يحتوي تفاصيل من العمارة الإسلامية القديمة دون التفات إلى وظيفتها، والآخر يعكس حداثة عمرانية تقتصر على بنايات عالية جداً بنظم أمنية بلا تفكير بعمارة صديقة للبيئة وأكثر تصالحاً معها.

لماذا يفتقر الأردن إلى وجود أعمال فنية ونصب في معظم الساحات والأماكن العامة، وإذا وجدت فإن جزءاً منها يبدو نافراً مع محيطه وربما يشوّهه؟ تساؤل حاولت "العربي الجديد" البحث عن إجابته لدى عدد من الباحثين والفنانين الأردنيين. تحضر هنا حادثة إزالة منحوتة "بوابة التاريخ" للفنان السوري ربيع الأخرس في عمّان، ومنحوتة أخرى للفنان الأردني غسان مفاضلة في جرش، بقرار مفاجئ وغير مدروس ولم تُنقل المنحوتتان إلى مكان آخر، بل وُضعت في مخازن بلديتي المدينتين.

تمّ تشويه نصب أخرى، مثل منحوتة الفنان سامر الطباع وطلاء عمل آخر للفنانة سامية الزرو باللون الأبيض وثالث للفنان نزيه عويس بألوان العلم الأردني، ووُضعت تشكيلات بالإسمنت أو الحديد لم تصمّم فنياً عند مدخل عدد من المدن تغلب عليها البشاعة والقبح.

في حديثه لـ"العربي الجديد"، يلفت أستاذ علم الاجتماع، سالم ساري، إلى أن "علاقة الإنسان بالمكان تظل مسألة ثقافية في المقام الأول، وتبلور مواقفه تجاه القضايا الأساسية، بمعنى كيف يدير علاقته بالكون والعالم الخارجي، وبالضرورة نظرته إلى الذات والآخر، لذلك تتباين درجات الاهتمام وتقديس المكان من مجتمع إلى آخر".

ويرى صاحب دراسة "الهوية والتفاعل الثقافي في عمّان اليوم: جدلية القبيلة والدولة في التاريخ الاجتماعي للمدينة العربية" (2008)، أن "الفن يحتاج أساساً إلى مخيّلة حرّة ومنفتحة، بينما هي في مجتمعاتنا العربية، ومنها الأردن، مهزومة ومهزوزة وغدت في عصر العولمة تعبّر عن استسلام مطلق للواقع والتكيّف مع معطياته، رغم أن المطلوب هو تجاوز هذا الواقع".

منحوتة غسان مفاضلة التي تمّ إزالتهايتابع ساري: "تجدر الإشارة إلى أن المدن التاريخية تأسّست حول السوق، باعتباره الساحة التي تحتضن التفاعل اليومي ويجري فيها تبادل السلع والأفكار والآراء في سياق التعدّد والاختلاف، وينشأ فعل الاحتجاج وتتطوّر نزعات التغيير فيها أيضاً، بينما نمت عمّان المعاصرة على نحو عشوائي وغير مخطّط له وتضخمت سكانياً بفعل موجات الهجرة واللجوء من جوارها، ما أثّر على نموّها الطبيعي، فلا يمكن وصف نظام النقل وحركة المرور فيها إلا بأنه غير عادل وغير إنساني وغير حضاري".

يوضح صاحب دراسة "ثقافة التنمية: الفاعل والمعطل في الثقافة العربية" (2010)، أن "الفضاء العام ومنه الساحات والميادين تمّ إقصاؤها بشكل ممنهج من قبل السلطة مثلما فعلت بقمع النقابات والتشكيلات العمالية مثلاً، إذ احتكرت المكان والإنسان وامتلكت الفعل والسلوك والفكر وغيّبت الجمال كمفهوم ومصطلح في مناهجها الدراسية، وغدا التفكير به يتأتى بمظهر العابر والسريع والمؤقت".

يختم ساري بالتأكيد على أن "تغيير حالة المدينة العربية لا يمكن أن يتأتى إلا بإصرار المجتمع على تفكيك إشكاليات ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة، ومنها علاقته الملتبسة والشائكة مع المكان خارج منطق الاستهلاك وثقافة العولمة".

أما أستاذ الفلسفة زهير توفيق، فينبّه إلى أن "السياسات الرسمية تسعى إلى تقليص الفضاء أو إنهائه، حيث أصبحت عمّان غابة من الإسمنت والحجر، وليست هناك أولوية لأية مشاريع ثقافية أو جمالية فيها، بل ثمة تقصّد للقضاء على تقاليد ورثتها الشعوب منذ بروز "الآغورا" لدى الإغريق قبل آلاف السنين؛ المكان الذي يتبادل فيه الناس آراءهم ويفكّرون بحلول لمشكلاتهم الاجتماعية".

يضيف صاحب كتاب "المثقف والثقافة" (2013): "بنت الحكومة العديد من المشاريع السكنية، مثل مدينتي أبو نصير في عمّان والشرق في الزرقاء، وهي تفتقد للفضاءات العامة التي يُفترض أن تقام فيها المهرجانات وساحات تحتوي أعمالاً فنية، ومع بدء تطبيق السياسات النيوليبرالية في العقدين الأخيرين تمّت خصخصة كل شيء وسيطرة رأس المال الذي لا همّ له سوى التمدد في الأبنية التجارية والسكنية بلا وجود لمتنفّس لسكانها".

ويشير توفيق إلى أن "الثقافة البصرية مهمشة في مجتمعنا لسبب تاريخي يتعلّق بغلبة النص واللغة ضمن منطق تجريدي على حساب الصورة، يضاف إليه حضور متزايد لثقافة التحريم وعدم فهم التداخل في الدلالة في إدراك وتلقي الفنون".

يستشهد محدّثنا هنا بحادثة تكسير منحوتات فنية داخل حرم "الجامعة الأردنية" منذ ثلاث سنوات، وتجاهل تدريس مناهج رصينة ومعمّقة للتربية الفنية والجمالية في المدارس والجامعات، وترك الطلّاب عرضة لتأثيرات قوى اجتماعية متشدّدة ورافضة للفن عموماً.

من زاوية أخرى، يؤكّد الفنان والناقد التشكيلي غسان مفاضلة أن "تغييب الأعمال الفنية الميدانية، وتحديداً الأعمال النحتية عن الفضاءات العامة في عمّان والمدن الأردنية، ليس ظاهرة منفصلة عن سياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل هي نتاج ذلك السياق وانعكاس لأزماته العضوية المتراكمة التي طاولت جوهر علاقة الإنسان مع فضائه العام".

يتابع: "مع خفوت صوت الثقافة والفنون، ولجم مسعاه الجمالي والتنويري بشكل ممنهج، بات "الخواء" وما يرافقه من قيم ومظاهر استهلاكية، هو المسيطر الوحيد على الفضاءات العامة في دولة يناهز عمرها مئة عام".

ندرة الأعمال الفنية في الساحات والميادين العامة، وتعرّض بعضها إلى الاجتثاث والتشويه، وشيوع الأعمال التي تكرّس الطابع الاستهلاكي والتسطيحي في تعاملها مع الموروث والسائد، بحسب مفاضلة، ما هي سوى نتيجة لإقصاء دور الثقافة والفنون في المساهمة بتحقيق التنمية والتغيير.

يشير محدّثنا إلى تعرّض عمله النحتي "الإنسان والمكان"، الذي كان ينتصب على مدخل مدينة جرش، إلى الاجتثاث من مكانه، بسبب تأويلات وذرائع مبهمة لا تمتّ بصلة إلى العمل، لافتاً إلى أن "هذا التصرّف العدواني من مسؤولي البلدية مع العمل النحتي، ليس سوى انعكاس جانبيّ لأزمات مركّبة وشائكة، أقلها طغيان (الثقافة النصيّة) بمرجعياتها المتعددة في الموروث العربي على (الثقافة البصرية) وجمالياتها التي تشكل رافعةً للنهوض بمجتمعاتنا من أوحال التخلّف والتعصّب والفساد".

الباحث والفنان هاني حوراني يلفت إلى أنه "بالرغم من وجود عمائر مميزة في عمّان والمدن الأردنية، وحضور المعماريين الأردنيين في العالم العربي على صعيد الجوائز وتصميم مشاريع كبرى، إلا أن هذا التميز لم يصاحبه استثمار على مستوى التخطيط المدني والحضري، ولا في تنظيم الفضاءات الحضرية، خاصة على صعيد الميادين العامة".

يرى صاحب كتاب "التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرق الأردن" أن "هذا الإهمال للفضاء العام يُضمر موقفاً أيديولوجياً وسياسياً محدّداً لا يضع المواطن في المقام الأول إنما يغلّب عليه المصالح التجارية أو الفوضى أو غياب التخطيط".

يتابع قائلاً: "لم يلتفت القيّمون على شؤون البلديات إلى إبداعات نحاتين أردنيين، مثل منى السعودي وسامر الطباع وكرام النمري، من أجل بلورة رؤية بصرية لمكانة المنحوتة أو النصب في الميادين العامة، والتي على كثرتها في عمّان إلا أن هناك عجزاً عن ملئها بنصب فنية، وضعفاً في دور الحركة الثقافية والفنية في تقديم اقتراحاتها الجمالية في عمران المدينة".

لذلك ومن الطريف، وفق حوراني، أن المدن أو البلدات الأردنية الأخرى - جرّاء هذا الفراغ أو العجز عن شغل الميدان العام بأعمال فنية مميزة - تلجأ إلى حلول تقليدية، مثل وضع نماذج لدلة القهوة أو وضع طائرة حربية قديمة أو كتابة اسم المدينة فوق نصب حجري بطريقة فجّة.

يختم بالقول إنه "من المعيب أن يعجز بلد عن إيجاد حلّ للميدان العام، رغم الإرث الحضاري الذي يتمتّع به، وظهور العديد من فناني الشارع الذين كان يمكن الاستفادة منهم في تجميل المباني المهجورة والفراغات الحضرية".

دلالات

المساهمون