عن المعلّم علي الدنيوي

ما يبقى من علي الدنيوي

17 يناير 2020
لوحة لـ جلال بن عبدالله
+ الخط -

كان طمع أهل البلد أوسع من ثروته فأفلس. فعلى من تبقى به أخذ كفايته من السواك الحار، والتسحّر بما تيسّر، فرُبّ صوم يعيض عن وطن. أما الذين يربّون الأمل تحت برانسهم القديمة، فقل لهم بعد التحية والتعازي، ليس على العميان حرح ولا على العزّل، فكل نفس بما كسبت.

ذات ليلة بعد أن تاه المعلم الذي به اهتديتُ، يقنتُ فحكمتُ فأقسمت بهذا البلد ووالد وما ولد. لقد ضاع كل شيء إلى الأبد. هذه بلاد مفلسة. أوهي تركة عقمت أرحام أهلها فلا وارث إلا مولى أو غلام. هذه بلاد لا مولى لها. قد يكون آخر الطب لمن تبقى بها بعد نفاد الأمل، افتداء نفسه من موالي الموالي أو دفع دمغات الخروج، إن وجد إلى ذلك حيلاً. وليتعز بما قال السلف اليائس "سافر تجد عوضاً".

ليس على عليّ الدنيوي الذي علمني حرجٌ في ما شهد. لم يكن أعمى ولكن يديه كانتا مغلولتين في ممر زلق منحدر. كان رجلاً طيباً، لكنه دأب ينظر الى ذؤابات الشجر السامق ويعتزم ويتوكل. وكان غير ذي نفوذ، فلم يستطع، فاستسلم للصمت. وقع عليه غرم الأرض والتراب فلم يخجل من واجب أبداً، لكن الذين نالوا "الورثة" رتبوا له ترتيباً. وكان يسمعهم يقولون في فرح غامر "رب كلب سقطت عليه من السماء عظمة يلهو بها"، فلم يرم حجراً على كلب يأساً من أخلاق الكلاب.

كان الأجدى بالمعلم عليّ أن يفكّر في تعديل قانون المواريث ليقتسم الباقون عبء الديات فتخفّ، لكن الأمر خرج من بين يديه بفعل فاعل يعرفه ولا يستطيع له رداً. لقد صار للبلاد أهل جدد يُعرَفون بسيماهم. وكانت سيماهم على وجوههم من فرط السهر، دوائر زرقاء حول عيون فاجرة.

عثر على الدنيوي في قانون المواريث على خطأ فادح، ليس بما فيه من حظ للذكر إزاء الأنثيين بل في أن لم يعد لثلاثتهم حظ يذكر، فقد سبق أولاد الحلال إلى كل شيء. قد يسهل على الورثة الآن تعديل قانون النحو والصرف، فلا عدل في أن يُصرّف جمع السيدات على المذكر إذا كان معهن سائق السيارة. ولقد كان من قوانين المكان الخوض في النحو قبل الخوض في التصريف فاللغة الجديدة نافعة، والخزندار المركزي يحتفظ بقائمة المقترضين والعارفين بحجم الدين أو بحجم المرهونات أي بحجم البلد الحقيقي. والمعلم عليّ لا علم له في المال، وليس له في الحساب البنكي إلا القليل الذي لا يدخله في القيل.

(..) لقد كان في السوق يبحث عن بناة القيم. فلما أدرك أنه كان يبحث في المكان الخطأ أدرك أيضاً أن آخر الطب الكي ولكنه ترك للزمن أن يسخّن المنجل. فقد كان قلبه من حرير ترقق بالمسح على رؤوس الصبيان الصغار في صباحات البرد في جبال الشمال القاسية. ولولا لحظة شغف بالتعلم ما مد يده للمسدس.


* مقطع من رواية "في بلاد الحدّ الأدنى"، منشورات "سحر"، 2010

المساهمون