"فينوس" بولانسكي: متلازمة اقتباساتٍ مازوخية

"فينوس" بولانسكي: متلازمة اقتباساتٍ مازوخية

12 سبتمبر 2014
لقطة من كواليس الفيلم
+ الخط -

تدور الكاميرا نهاراً في حي باريسي راقٍ خالٍ من المارة. تنعطف يميناً وتدخل إلى مسرح. في الداخل، يقف المخرج في الصالة الخالية ويتكلم مع خطيبته على الهاتف. يقول لها إنه انتهى توّاً من اختبار الممثلات، شاكياً لها ضعف أدائهنّ وعدم قدرة إحداهن على لعب الدور الرئيسي في مسرحيته الجديدة.

في الوقت الذي يهم فيه المخرج بمغادرة المسرح، الذي ما زال ديكور العرض السابق يشغله، تدخل فتاة، قائلة إن لديها موعداً من أجل إجراء اختبار تمثيل. يتذمر المخرج منها، ومن تأخرها، وكذلك من منظرها الرخيص وطريقة كلامها المستهترة بالمسرحية. لكن، رغم ذلك، تصرّ الممثلة على المضي بالاختبار، لكونها لا تستطيع القدوم في يوم آخر.

تبدأ الممثلة تأدية المشهد المطلوب رغم عدم حماس المخرج. لكن، سرعان ما يُفاجأ هذا الأخير بأدائها وطريقة تقديمها للشخصية. هكذا، ينجرف المخرج مع الممثلة، مختبراً إياها ليس في مشهد واحد فحسب، بل في معظم فصول مسرحيته.

لعبة شائكة بين المخرج والممثلة، مليئة بالتحدي والإغراء والسيطرة والتمثيل والحقيقة والمازوخية. تلك هي القصة التي يقدمها المخرج البولندي الفرنسي رومان بولانسكي في فيلمه الجديد "فينوس في الفرو".

تؤدي الممثلة أمام المخرج المسرحي اختباراً بحِرَفية عالية إلى أن يقتنع المخرج بأدائها، وإغرائها. يبدو المخرج مهزوماً أمام موهبة الممثلة الدخيلة، ويتحوّل تدريجياً إلى شخصية الذَكَر المازوخي التي يتحدث عنها، هو نفسه، في مسرحيته. تكمل الممثلة عملية الاختبار والسيطرة على المخرج المشدوه بأدائها، وينتقل الاثنان من مشهد إلى آخر، ويتبادلان بعدها الأدوار.

يقوم المخرج بأداء شخصية المرأة في مسرحيته، ويضع المكياج على وجهه، ثم يرتدي أزياءها ليضيع بين مراقبته أداء الممثلة الجديدة، وافتتانه بها. ينتهي به الأمر مقيداً بديكور المسرحية السابقة، بينما تخرج الممثلة من المسرح وتمشي في الشارع الباريسي الراقي والخالي.

اقتبس بولانسكي فيلمه من مسرحية بالعنوان ذاته للكاتب الأميركي ديفيد أيفس، عُرضت للمرة الأولى في نيويورك عام 2010. وكان أيفس نفسه قد اقتبس مسرحيته من رواية بالعنوان ذاته للكاتب النمساوي ليوبولد فون زاخر- مازوخ، كتبها عام 1870.

رواية زاخر- مازوخ هي الأخرى مقتبسة من حياته الشخصية، وتحكي علاقته بالكاتبة الناشئة فاني بيستور، التي تحولت إلى علاقة مازوخية يطلب فيها الكاتب من الفتاة أن تعامله بذلٍّ (وتأتي كلمة مازوخية من اسم زاخر- مازوخ، نفسه).

أطلق زاخر- مازوخ اسم فاندا على بطلة روايته، وحافظ بولانسكي وديفيد أيفس (شريك بولانسكي في كتابة سيناريو الفيلم) على هذا التمازج، وأطلقا اسم فاندا على الممثلة الدخيلة، وعلى الشخصية التي ستؤديها.

شريط بولانسكي مليء بالثنائيات، ما بين علاقة الفيلم بالأدب، والمسرح بالحياة اليومية، والعلاقة الشائكة والمتسلطة بين المخرج الذكر والممثلة الأنثى.

يتناول الفيلم، في قصته، الطريقة التي باتت تفترضها آليات صناعة السينما الحديثة، حيث المخرج هو المسيطر وصاحب القرار، في ظل ما تفرضه علاقات المنتجين المخرجين من سلطة على الممثلين. هكذا، أصبحت تجارب الاختبار مصدراً للقلق لدى الممثلين، وللعلاقات المتأرجحة بينهم وبين المخرجين، خصوصاً عندما تتفحص عيون المخرجين مواهب الممثلين، أو الممثلات، وجمالهن. لكن يبقى هنا أن إحدى مهام المخرج هي أن يعجب بممثليه. هكذا، تمضي الأحداث في "فينوس في الفرو" إلى تفاقم إعجاب المخرج بالممثلة، وبالتالي إلى مرحلة الرضوخ التام لها.

فيلم بولانسكي، الذي يستمد مادته من سلسلة الاقتباسات هذه، يؤكد أن فينوس هي أيقونة إغراء عابرة للزمن وأزلية، تعود إلى زمن كتابة الرواية عام 1860، بل وحتى إلى زمن نشوء هذه الشخصية الأسطورية. ولعل اختياره لتجربة اختبار الأداء كإطار لفيلمه، هو إشارة لانفتاح هذه التجربة على المستقبل. فتجربة الأداء آنية، يخوضها الجميع الآن، واضعين بالحسبان ما سيأتي لاحقاَ: البروفة والعرض نفسه، وانفتاح ذلك المستقبل على احتمالات عديدة، بما فيها العلاقات الإيروتيكية المتشعبة بين المخرج الذكر والممثلة الأنثى.

يبدو بولانسكي ذكورياً بطرحه. يقدّم مجموعة من التفاصيل التي نقرأ من خلالها شخصية الذكر في فيلمه؛ فهو مخرج ومرتبط ولديه مواعيد، بينما لا نعرف عن الممثلة الأنثى إلا شبقها، ولا نعلم إن كانت ممثلة جيدة أم أنها امرأة لعوب. ورغم هذا التباين في رسم الشخصيتين، يقوم بولانسكي بإذلال المخرج الذكر، مشيراً، من دون حرج، إلى أن هذا المخرج الذليل أمام ممثلته قد يكون هو بولانسكي نفسه.

يتضمن "فينوس في الفرو" استعادات لمشاهد وأدوات عديدة من أفلام بولانسكي السابقة، مثل "الموت والعذراء"، و"المستأجر"، و"القمر المر"، و"المذبحة". كما أن في هذا الشريط عودة أخرى إلى أفلامه التي تدور أحداثها في مكان واحد طوال الفيلم.

ولا تكتفي مكاشفة بولانسكي باستعادة أمزجة كان قد قدمها في أفلام سابقة، بل تبدو شخصية المخرج، التي يؤديها الممثل الفرنسي ماثيو أمالريك، شبيهة ببولانسكي نفسه. أما الممثلة، التي تلعب دور الفتاة الدخيلة، فهي الفرنسية إيمانويل سينييه، زوجة بولانسكي في الحقيقة.

دلالات

المساهمون