عابرةً وإياها جدار الصوت والمعنى

عابرةً وإياها جدار الصوت والمعنى

04 نوفمبر 2019
(من عمل لـ إيلي كنعان)
+ الخط -

البوهيمية

أنا البوهيمية، أبدأ، أُخطّط، أعترض، أتطرّق لكلّ شيء، أعبر الهوّيات، أبحث عن الحد الوحيد في تقاطعات القصيدة، ألمسها، أنظرُ إليها وأمدّ نظري نحو آفاقٍ أُخرى، نحو حدودٍ أخرى، نحو الحقائق المفتوحة. أبحث عن بلادي في بئرٍ عميقةٍ، أحدّق بها مطوّلاً وأتركها.

أسافر في الكلمة، أسمع أنفاسها تتحطّم على الصفحة أو تلامسها فقط، أسقط أو أعلو وإياها، أو تنثرني في الأفق أيضاً.

أُسرِجُ الكلمةَ نحو نهاية القصيدة، عابرةً وإياها جدار الصوت والمعنى، تأخذني في اللامكان، في اللازمان، نحو محيط أيّ مكان، في قلب العالم وبعيداً عنه، في الطرف الآخر.

ما زلت أسافر في القصيدة، أستكشف جغرافيتها في جسدي، مسبارُ قاع الروح يسحبُ خصلات شعرها، يعبرها بأصابعي ويرفعها، لا تزال تتنشق رائحة هذا الحبيب الذي تركها دون أن يقول وداعاً.

أسافرُ في جسد الآخر، جسد اللغة، على صدرها أتشتت، أتفحّص منحنياتها، أتوقف عند أغوارها، أذهبُ أبعد من ذلك.

أتغلغل في أرض الحُب، الجميع يبحثون عن دليل الهندسة، أتمشّى لفترةٍ طويلة، أحياناً أسقط، أنهض، أم لا، أحفر في سمائها وأضع ترابها على رأسي، أبكي أو أضحك وإيّاه، يضحك عليّ.
أذهبُ إلى بونيفاسيو، إلى فاس، إلى سانتياغو، إلى باريس، أتوقّف في قرطبة، في بينيا، أو كابري وأماكن أخرى.

حيثما حللتُ تُكتبُ القصيدة، على ضفّة البحيرة أو في غابةٍ مغلقة على نفسها، في مَسْرَبٍ، في غناء العندليب أو صرصار الليل.

يفتح لها البحر أجنحته، أُسرع معه، أغوص عميقاً في المياه، أُعاود الظهور والموجات، أحياناً أرتطم بصخرةٍ وأحياناً أستيقظ مبكراً على شاطئٍ رمليّ.

من احتراق الشمس ولدت هذه القصيدة المنقوشة في وجهي، وفي كفّي. الرمل، الماء، شعري وجسدي، جسد اللغة، جسد الحب، قصيدة الجسد.
أستيقظ، أرمي هذه الرِّداء الرملي، وأغادر.


■ ■ ■


الموتى

تذكَّر موتاك
الدموع تصقل الغياب
كماسّة
تعملُ على تلميع النقوش
تذكَّر موتاك
هم دليل حياتك
مبرِّرها الوحيد
رُشَّ ذاكرتهم
في الجزيئات التي تتنفّسها
اعجن خبزكَ بماء وضوئهم
واحفظ في جيوبك
قطعة من أكفانهم

قريبةٌ النهاية
حاضرةٌ دوماً
تعُد خطواتِك
تسبقها وتنتظر.


■ ■ ■


النسيان

من ولادة حب جديد، يدهمنا بَرْقُ الانطلاق، صخبُ الموجِ في الدماغ وحركة الحياة الممتلئة.
لن نشعر أبداً بالهشاشة، بالخوف والقلق
شذا الوردة البيضاء في ذروته مع اقتراب هلاكها، قوّةُ العطر وقوّةُ الموت تعذبانها.
النسيانُ صمامٌ حيث يولد حبّ آخر، ربما تكون وظيفته الوحيدة ديمومة الحب الذي يحمل العالم ويقرّر ترتيب الكون.
إنّه بالكاد الشوكة التي تتحدّث عن الحب، لكن مبارزة الحياة والموت تصعد كعطر الوردة نحو مذبح الآلهة.


■ ■ ■


نخلة

"اليقين هو الجرح الأقرب للشمس"/ رينيه شار

كان جميلاً ذاك الحلم
المستلقي في راحة يدي
أنا
بالكاد عانقته
ولمحته

شفتاي ترتديان ابتسامة

كان قوياً كان هشّاً ذاك الحلم
يهتزّ كالندى الشتائي
أصابعي لم تلمسه أبداً
وقلبي بقي مفتوحاً

في الليل وفي طلوع النهار
أسمع
الموج
في
صَدَفةٍَ.

ينحني رأسي ولا يلامس أيّ شيء

نخلةٌ
يتيمة
في حدائق اللوكسمبورغ
يغطيها الثلج.


* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس
** ترجمة عن الفرنسية: بهاء إيعالي

المساهمون