مقاطع من "ثورة السوق": أينما استقرّ البيض اختفى "الهنود"

مقاطع من "ثورة السوق": أينما استقرّ البيض اختفى "الهنود"

24 مايو 2020
(تشارلز سيلرز، فوتوغرافيا: إريك إثريدج)
+ الخط -

في البداية كانت الأرض، التي تمنح منذ العصور السحيقة البقاءَ للكثيرين والمكانة والثرواتَ والسلطةَ والاستقلالَ للقلّة. عندما أثار عالمٌ جديدٌ جاهزٌ للاستغلال اهتمامَ العالم القديم الذي اجتمع فيه كثير من الناس على مساحة قليلة جداً من الأرض؛ امتدّ رأس المال التجاري الأوروبي عبر البحار من أجل الهيمنة على العالم.

جَمَعَ تقسيمٌ عالمي للعمل التوابلَ الآسيوية، والعمّالَ الأفارقة المُستَعْبَدين، ومساحةَ العالم الجديد التي لا تنضب، في شبكة معقّدة من الإنتاج المُعدّ للتبادل، وعاد إلى أوروبا رأسُ المال الذي أطلق ثورتها الصناعية الخاصة. أينما وصل رأس المال التجاري، جعلتْ سلعُ السوق، التي لا تقاوَم، الناسَ يُنتِجون السلع الأخرى التي يطلبها السوق. وبما إن تقسيم العمل بَرَّرَ وضاعَفَ الإنتاجَ، فإن القيمة النقدية قامت بتوزيع الموارد الطبيعية والطاقة البشرية. وفي حين أفسحت الثقافاتُ التقليديةُ المجال لنشر ثقافة السوق، فإن المعتقدات والسلوكيات والعواطف والعلاقات الجديدة حثّتْ على العمل وشجعت على الاستهلاك [...].

وبعكس الأراضي على السواحل وبالقرب من الأنهار في العالم الجديد لم تصل السوقُ الناشئةُ الأراضيَ الداخلية. كان نقل البضائع أكثر صعوبة بكثير عبر المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة في أميركا مما كان الحال في أوروبا ذات الكثافة السكانية العالية. وبعيدًا عن النقل المائي، كان لا بد من نقل المنتجات الزراعية الضخمة بوساطة عربات تجرّها الخيول على الطرق والممرات التي يصعب صيانتها وقلّما كانت سالكة. كان نقلُها لأي مسافة تبلغ أكثر من ثلاثين أو أربعين ميلاً يكلِّفُ أكثرَ مما كانت تستحقه. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين استقرّوا بعيداً عن المياه الصالحة للملاحة كانوا ينتجون بشكل أساسي قيم العيش بدلاً من قيم السلع في السوق للبيع.

نشأتْ اختلافاتٌ ثقافية عميقة بسبب هذه الأساليب المتناقضة للإنتاج. وبدورها شجّعت السوقُ الفرديةَ والسعيَ التنافسي للثروة من خلال الإنتاج غير المحدود للسلع التي يمكن أن تتراكم كنقود. ولكن الإنتاج الريفي لقيم العيش تَوَقَّفَ حالما حصل الناس على مأوى وملبس وطعام. إنّ فائض المنتوج الزراعي ليس له أي قيمة تجريدية أو نقدية، ولا يمكن تراكُم الثروة في هذا السياق الريفي. لذلك عزّزتْ ثقافةُ الكفافِ الالتزامَ العائلي والتعاونَ المجتمعي والتكاثُرَ عبر أجيال من الحياة الرخية المتواضعة.

وبحلول عام 1815، كان الهنود الأميركيون وثقافاتهم على وشك الانقراض في شرق الولايات المتحدة. أينما استقرّ البيض، اختفى الهنود [...].

تم تدمير الأميركيين الأصليين بسبب نقص المناعة ضد الميكروبات ونقصها أيضاً ضدّ السوق الجديدة التي جلبها البيض. في الأماكن البعيدة في كارولينا، بعد أن قضى وباءٌ جدريٌّ على خمسة أسداس السكان الأصليين، فإن وباء جدريّاً آخر جعل الغابةَ "ذات رائحة كريهة جدا بسبب جثث الهنود" لدرجة أن الكلاب والذئاب والنسور كانت "مشغولة لعدة شهور في التهامها". إلى جانب هجوم الأمراض المميّتة في كل مكان والتي جلبها الغزاة البيض؛ تعرّض الهنود أيضًا لهجوم ثقافي بسبب السلع التجارية التي لا تقاوَم في السوق والطلب الذي لا يُشبَع على الفِراء [...].

فرضتْ ثقافةُ الكفاف مقادير ثقيلة من العمل، من خلال سلطة الأب، الموروثة من نمط إنتاج الأُسرة الأوروبية التقليدية. كان الأب يسيطر على عمل جميع أفراد العائلة في معظم ساعات استيقاظهم، وكان يتخذ جميع القرارات العائلية الرئيسية. وبحكم هذه السلطة، فإنه قد لا يستشير زوجته حتى حين يتعلّق الأمر باقتلاع العائلة ونقلها لمسافة مئات الأميال. تفاقمت البطريركيةُ أكثر بسبب قسوة الهجرة وقسوة الحياة الزراعية والمعارك مع الهنود في العالم الجديد حيث كانت المؤسسات المدنية أضعف من أن توفّر الأمن. حتى في المناطق الريفية المستقرّة منذ زمن طويل، ساد قانون الأقوياء، واعتمدت العائلات على شجاعة وانتقام الآباء والأخوة. وأكّدت الرجولة العدوانية "الشَرَفَ" الأبويّ الذي تعتمد عليه سلامة وإمكانيات النساء والأطفال.

إن الأرض زهيدة القيمة، التي تمت السيطرة عليها تحت المفهوم الرأسمالي للمُلكية في سوق الساحل، نفخت في "الشرف" الأبوي وأعطته أبعاداً "بطولية" في أميركا الريفية. استندت سلطة الأب إلى ملكيته القانونية لأرض الأسرة. حيث كانت ملكية أراضي الفلاحين الأوروبيين مرهونة عادةً بالالتزامات تجاه رجل ما من النخبة، كان المزارع الأميركي يملك الأرض برسوم بسيطة. وكان بمثابة الرب الأعلى في مجاله، وخارج تدخُّل أي قوة أرضية. وباستثناء ضريبة متواضعة، ومن حين إلى آخر نصفَ يومِ عملٍ على الطرق في المنطقة أو نصف يومٍ من تدريبات عسكرية مع مليشيا ما؛ فإنه لا يتحمل أي التزامات بالعمل أو بالمال أو بالخدمة أو بالولاء الديني لأي شخص أو كيان. الأرض المملوكة برسوم بسيطة، والتي كانت المسرح الذي نَفَخَ الشخصيةَ الأبوية، حافظتْ على "شَرَف" هذا الأب وإرادته غير المحدودة.

ولكن بحلول عام 1815 أخذت ثورة السوق تتغلب على حواجز النقل البرّي. بينما كانت هذه الثورةُ تُفكّك الأنماطَ المتأصلة في السلوك والمعتقدات، لصالح الجهود التنافسية، حيث حشدتْ المواردَ الجماعية من خلال الحكومة لتعزيز النمو بطرقٍ لا حصر لها، ولا سيما من خلال توفير الهياكل الأساسية القانونية والمالية ووسائل النقل. ومن خلال تأسيس الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد والسياسة والثقافة، خلقت ثورةُ السوق في القرن التاسع عشر معظم العالم الذي نعرفه اليوم.

لا يفسّر تأريخنا التقليدي للرأسمالية الديمقراطية (أيْ فكرة أن الرأسمالية والديمقراطية كانتا تسيران دائمًا جنبًا إلى جنب في الولايات المتحدة) الأغلبيةَ التي ستصوّت لاحقًا للرئيس أندرو جاكسون. على الرغم من تناقضات النظام الأبوي، والعنصرية، والمُلكية برسوم بسيطة؛ فقد احتشدتْ هذه الأغلبية من الأميركيين حول القيم الإنسانية الدائمة للعائلة والثقة والتعاون والحب والمساواة. يبدأ فهم العالم الذي فقدوه والعالم الذي "كسبناه" بفهم الاختلافات بين ثقافة الأرض وثقافة السوق [...].

المزارع الأميركي، الذي كان يعتز بالاستقلال الأبوي، تمسّك بشراسة أكبر من أسلافه الفلّاحين بالأرض التي بفضلها حصل على هذا الاستقلال. ومن المفارقات أن المذهب الرأسمالي للملكية الخاصة كان الأساس القانوني لتوسّع السوق وأيضاً لمقاومة توسّع السوق من قبل المزارعين [...].

سرعان ما أدّى ازدهارُ التجارة إلى أن يُصبح تعزيزُ الحكومة للنمو الاقتصادي الديناميكيةَ المركزيةَ للسياسة الأميركية. احتاجت النخب الريادية إلى أن تضمنَ الدولةُ الملكيةَ الخاصة، وتنفّذَ العقودَ، وتوفِّرَ البنى التحتيةَ القانونية والمالية والبنى التحتيةَ لوسائل النقل، والى أن تقومَ بتعبئة موارد المجتمع كرأس المال الاستثماري، وأن توفّرَ مزايا قانونيةَ غير عادلة لصالح الأنشطة الاقتصادية بطرق لا حصر لها. سَعَتْ هده النخب إلى دولة وطنية قوية بقيادة النبلاء، وحلمتْ من خلال سياساتها التنموية بمنافسة الثروة والقوة البريطانيتين.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الأغلبية الريفية قد اعتقدتْ أن الجمهورية الموجودة بالفعل كانت مثاليةً. وعدتْ الديمقراطيةُ المزارعين حمايةً من الحكم التدخُّلي. لقد كرهوا الضرائب ولبّوا معظم احتياجاتهم الاجتماعية من خلال مؤسساتهم الخاصة للعائلة والكنيسة، ولذا قاوموا بشراسة أيَّ توسيع للوظائف العامة أو للنفقات العامة كونه يشكّل تهديداً للاستقلال الأبوي. من أجل الحفاظ على استقلال ومساواة المواطنين الذين يتمتعون بالاكتفاء الذاتي والحكم الذاتي، أراد المزارعون أن تكون الحكومة ضعيفةً ورخيصةً وقريبةً من المنزل. ولأن نخب السوق هدّدت هذه "الجمهورية اليومنية" (Yeoman Republic)، أثارتْ هذه النخب في الوقت نفسه قوةً مضادةً ديمقراطيةً قويةً تسعى إلى إحكام السيطرة على الحكومة من قبل الناخبين العاديين.

وهكذا ركّزتْ وجهات النظر المتضاربة للأرض وللسوق السياسةَ الأميركية المبكرة على ثلاثة أسئلة مترابطة، أولاً: إلى أي درجة ستكون الحكومةُ ديمقراطيةً، أو بعبارات أخرى، إلى أي درجة ستستجيب الحكومة للأغلبية الشعبية؟ ثانياً: هل ستكون سلطة الحكومة واسعة النطاق ومركّزة على المستوى الفيدرالي أم هل ستكون هذه السلطة محدودةً وموزَّعة بين الولايات؟ ثالثاً: إلى أي مدى وبأي طرق ستشجّع الحكومة النموَ الاقتصادي؟


* Charles Grier Sellers مؤرّخ أميركي من مواليد عام 1923 وهو مؤلف الكتاب الرائد "ثورة السوق: أميركا الجاكسونية، 1815-1846" (جامعة أكسفورد/ 1991)، والعديد من الكتب والمقالات الأخرى. كتب السيرة الذاتية لجيمس ك. بولك، الرئيس الأميركي بين عامي 1845 و1849، (في مجلدين صدرا عن منشورات جامعة برينستون، الأول عام 1957، والثاني عام 1966). عمل سيلرز أُستاذاً للتاريخ في جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي حتّى تقاعده.

** مقاطع من كتاب "ثورة السوق: أميركا الجاكسونية، 1815-1846"، مطبعة جامعة أكسفورد، ترجمة كريم جيمس أبو زيد، خاصة بـ"العربي الجديد"

دلالات

المساهمون