ما أهون الارتطام بالزجاج

ما أهون الارتطام بالزجاج

20 يونيو 2019
حاتم المكي/ تونس
+ الخط -

في يوم ما، ارتطمَت طالبة بزجاج أحد الأبواب الداخلية في الجامعة، سمعتُ صوت الزجاج ولم أسمع صوت الفتاة. وفي يوم آخر ارتطمَت فتاة أخرى، ومرّة أخرى، سمعتُ صوت الزجاج ولم أسمع صوت الفتاة، وتذكّرتُ أني ذات يوم ارتطمتُ بزجاج الباب أثناء خروجي من عيادة طبيب الأسنان في بيت لحم، وفوراً حضرني صوت الزجاج في ارتطامات الفتاة الأولى والثانية والعاشرة وما انفكّ الصوت يتدحرج في المرايا الزجاجية وغير الزجاجية.

تظاهرتُ بأن الأمر بسيط مثل قَرصة أو لَسعَة صغيرة وحميمة، ولعلّها تلتمع عندما تستيقظ الذكريات، وخرجتُ مسرعاً وكانت يدي تتلمّس وتكاد تقول، واعتمدتُ شارعاً معتدلاً أو لعلّه يخفت أحياناً فيه حضور العابرين، وكان الدم يسيل خفيفاً وربما متسامحاً، وكنت أتبدّى بأنني لست جزءاً من الحدث في ذلك الزمن.

عاتبتُ نفسي وقلتُ هذا ثمن الإغراقات الوسيمة والباهظة، وما زلت أرى أنْ علينا أن نقرأ الأمور قراءةً منصفة أو متأنّية، فهناك إغراقات جديرة بالذهاب إلى عوالمها، ولا أقول هنا بالانحياز لها أو بالتساوق مع أمدائها، ولكن بضرورة الوقوف عندها وتلمُّس غرائبياتها الثرّة المدهشة، ومنحها فرصة المكاشفات الجريئة والعميقة والتي لا يمسك بمكنوناتها المتفرّدة إلّا الصفوة وأصحاب الأحزان المضيئة وربما الانتشاءات الكبرى، ولعلّي أؤمن بأن هناك مساحة حاضرة بين الرؤية وجغرافية الجسد دائماً، ولكنها قد تضيق أو تتّسع، وعلينا أن نعترف بحقيقة أن تكون حالمِاً ومرهَفاً يعني أن تكون دقيقاً إلى حد الصرامة الخالصة في معظم الأحايين.

دَلَفت إلى الحَلّاق طَيّب القلب إذن، ومن غير إفراط في شرح ناولني قُطْنَة وبعض المعقم، وتدبرت أمري، ولعل كل هذا قد ذكّرني بارتطامات متنوّعة جاءت في أزمنة وسياقات مختلفة، لم يَسل الدم من أي من تلك المتون، ولم يلتمع ولم يَنْسرِب:

فقد ارتطم قلبي بعقلي ذات ليل،
وارتطمتُ بنفسي،
وارتطمَت ذاكرتي بالراهن،
وارتطمَت إغراقات صمتي بالضجيج،
وارتطم الماء البارد بِنار الأسئلة المتوثّبة،
وارتطم رحيق النرجس النافذ بالأفكار الصحراوية وغيبوبة الرمال،
وارتطمت المساءات الحالمة بالفشل والفاشلين،
وارتطمت هدأة الصباح بالأخبار الناشفة،
وارتطمت الأنوثة المفعمة ببعض الرجال القوارض،
وارتطمت القصيدة بالأرقام والحسابات العابسة اليابسة،
وارتطمت رؤية شاعر مُضيء بالحذلقات والمتحذلقين،
وارتطم صوت فيروز بغابات من أنواع كثيرة،
وارتطمت هيبة الكلام بالساذج الفاقع المترهّل،
وارتطمت عناقيد الأسرار بتعطّشات امرأة تستعد لحرب الإشاعات،
وارتطم العطش الروحي بالفيهقات والمتفيهقين،
ثم ارتطمت أنوثة الطباشير بأحرف مريضة،
وأخيراً
ارتطم الطالب بمُعلّم مبتسم.

...

يااااااااااه!
ما أهون الارتطام بالزجاج!


* شاعر من فلسطين

المساهمون