ماذا ستفعل بالرواة؟

ماذا ستفعل بالرواة؟

27 ابريل 2018
مقطع من عمل لـ ريم يسوف/ سورية
+ الخط -

سوف يروي السوريون عما حدث في بلادهم في هذه السنوات، ولدى كل سوري رواية يرويها، سواء منهم من بقي في الداخل، أو من خرج من البلاد. سواء منهم من ظلّ في بيته وأرضه وقريته ومدينته، أو من ترك كل شيء وراءه ورحل إلى مدينة ثانية، أو قرية أخرى، أو بلد آخر.

هؤلاء هم الرواة الشفويون الذين لشدّة ما يحكون، سوف يضعون الروائي نفسه في حرج الاختيار بين هذه وتلك من الحكايات. فلا أفضلية لحكاية عن حكاية في حجم المعاناة، ولا في جوهر المأساة، ولا في طبيعة الكارثة التي أصابت الجميع. ومن يخالط السوريين ويستمع إلى حكاياتهم، سوف يرى أن كمّ الرواة، أو عددهم، أضحى يشكل حمولة ثقيلة تتناثر في كل جهة، وتصبح يوماً بعد آخر سيرة هائلة تضع موضوع العلاقة بين الواقع والرواية موضعاً شديد التعقيد. لا لأن المأساة كبيرة وجارحة ومدمرة وغير إنسانية وحسب، بل لأن التفاصيل التي تضمّها وتحتويها أضحت تشمل مئات الآلاف من النساء والأطفال والرجال. فحيثما ذهبت، لن تجد غير أولئك الرواة الذين يريدون أن يقولوا لك إن ما حدث معهم فريد وعجيب وغريب ولا مثيل له في التاريخ البشري. وحيثما استمعت إلى الرواة سوف تجد من يهتف: أنا من أتته الكارثة كلها مجتمعة.

وثمة من يقول إن بعض تلك الحكايات لا يصدق. والكثير من هذه الحكايات التي لا تصدق، حين يستمع إليها المرء، حقيقي ويشبه سورية إلى حد بعيد، وهو يتردّد على ألسنة الناس ممن شهدوا هذه السنوات العجيبة من الكوارث والمصائب التي طاولت تاريخ البلاد. وإذا كان الروائي يحتاج لزمن ومسافة ابتعاد عن الحدث كي يتمكن من الكتابة الروائية الموضوعية الباردة، فإن حضور الشهادة أو القصة الشخصية لمن تعرّضوا للتعذيب والطرد والتهجير والرعب والاعتقال، سيضعه أمام الحدث الساخن الذي لا يمكن الفرار من وجهه.

وفي انتظار البرود الموضوعي الذي أوصى به كثير من الكتّاب، أو تعلقوا به، واستندوا إليه في الصمت أو التجاهل لما يجري، ماذا يمكن أن يفعل الروائيون بالرواة؟ فالرواة الذين عانوا على الأرض من الكارثة، لا يستطيعون انتظار الكتابة، ولا يعرفون ماذا يفعلون بما تكدّس لديهم من حكايات وقصص. فمن يستطيع أن يحدّد وقتاً مناسباً لبداية البرود؟ وكيف يمكن أن نفصل بين الحار الدموي الكارثي والبارد الهادئ الملاحظ في سلسلة الزمن؟

في جميع الثقافات تظل العلاقة بين الراوي والحقيقة ملتبسة، ومن الصعب أن تتمكن أي ثقافة من وضع الراوي في موقف الحياد تماماً، أو فصل أقواله ومواقفه عن الحدث المروي. فكل واحد من الرواة يريد أن يقدّم لنا الأحداث بحسب الهوية التي ينتمي إليها، وبحسب القصة التي يتبناها.

لهذا فإن الصراع على الحكاية والرواية يشتدّ على الصعيد الثقافي السوري، ويبدو الآن أن من يدّعون أنهم قد انتصروا يريدون الانتهاء سريعاً من الرواة الشهود. وسواء كنت هنا أم هناك، ففي نهاية الأمر سوف تجد أن عليك تصفية الحسابات مع الحكايات.

المساهمون