جيمل آيدن: تأريخ فكرة عالم إسلامي

جيمل آيدن: تأريخ فكرة عالم إسلامي

19 سبتمبر 2017
مقطع من خريطة الشريف الإدريسي (1099-1165)
+ الخط -

يقدّم الكاتبُ التركي جيمل آيدن لكتابه "فكرة عالم إسلامي: تاريخ فكري عولمي"، بسؤال عن ماهية هذا المصطلح الشائع؛ العالم الإسلامي. ويتوصّل بعد تحليل تاريخي مطوّل للأحداث والمناسبات والحركات وصراع الإمبراطوريات والأسر الحاكمة، إلى أن هذا المصطلح لم يكن له وجود، لا على صعيد الوعي ولا الجغرافيا السياسية ولا الممارسة الحضارية قبل القرن التاسع عشر. وحتى حين استخدمه طرفا الصراع على مشارف الحرب العالمية الأولى، وخلالها، وفي أعقابها، كان هذا الاستخدام استغلالاً للدينيّ في صراع سياسي/ عسكري ذي أهداف إمبريالية.

وحمل هذا الكتاب الصادر بالإنكليزية عن "مطبعة جامعة هارفرد" (2017)، معلومات على جانب كبير من الأهمية حول طبيعة الصراعات التاريخية، والتي خاضتها الإمبراطورية العثمانية وتحالفاتها، كاشفاً عن مراميها الحقيقية بعيداً عن، أو بغض النظر، عن الشعارات التي رفعتها هذه الإمبراطورية بين الحين والآخر، حسب طبيعة الصراع والأطراف المشاركة فيه.

يبدأ الكاتبُ بتقرير واقعة أن خُمس سكان العالم الآن مسلم، يعيش في مجتمعات في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية، متنوّعة يختلف بعضها عن بعض لغوياً وعرقياً وسياسياً وقومياً. ومع ذلك لدى المسلمين وغير المسلمين انجذاب نحو وحدة إسلامية عالمية متخيّلة.

ولا يحتاج المرءُ إلا إلى نظرة إلى العناوين الرئيسية ليرى أن هذه الوحدة غير قائمة، وأن من يزعمون أنهم يتحدثون باسم كل المسلمين يستهدفون المسلمين الآخرين بوصفهم أعداءً. والمجتمعات الإسلامية منقسمة انقساماً لا مثيل له، تصدّعها حروب داخلية ونزاعات ممتدة عبر الحدود. ومع ذلك يبقى ماثلاً ما يسميه الكاتب "وهم الوحدة الإسلامية".

ولكن من أين جاءت فكرة العالم الإسلامي؟ ولماذا هي مستحكمة ومسلّم بها على الرغم من سذاجة تصوّر أن ما يقارب المليار والنصف مليار من الناس مع كل اختلافاتهم يعيشون في إطار وحدة متخيّلة؟ ولماذا تعتمد الكثرة الكاثرة في ما يدعى الغرب، ويعتمد القادة المسلمون والمثقفون على فكرة العالم الإسلامي، لوصف جغرافية/سياسية وحضارة وتراث ديني لملايين متنوّعة من الناس من دون تدقيق في عمومية مصطلح "العالم الإسلامي"؟

يقول الكاتب إنه "على الضد من الافتراض الواسع الانتشار، فإن هذا المصطلح ليس مشتقّاً من مصطلح "الأمة" القديم قدم الإسلام، الذي يشير إلى الجماعة الدينية الإسلامية، بل نشأ كفكرة في القرن التاسع عشر، وازدهر في سبعينيات القرن العشرين".

ويضيف: "... وكذلك خطأ الاعتقاد بأن المسلمين كانوا موحّدين إلى أن مزقتهم الأيديولوجية القومية والاستعمار الأوروبي... الحقيقة عكس ذلك، فما كان من المتصوّر أن يلجأ المسلمون إلى فكرة وحدة سياسية عالمية إلا مع بلوغ الهيمنة الأوروبية ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر، حين غذت الأوضاع الاستعمارية التعيسة، والخطابات الغربية التي اتهمت "العرق" الإسلامي بالوضاعة، وملاحظة نظريات عدد من المسلمين لانحطاطهم الظاهر، أوائل أطروحات تضامن عموم المسلمين... أو بكلمات أخرى، لقد ولدت فكرة عالم إسلامي مع قدوم العولمة الإمبريالية، وتنظيمها الذي رافقها للبشرية على أساس عرقي... فترابط تحويل الإسلام إلى "عرق" مع تحويله إلى تراث ديني رسمي شامل، وقوة في السياسة الدولية، وموضوع خاص في خطاب الحضارات، وساهمت في تجسيد هذا الواقع الجديد استراتيجية سياسية وجهد ثقافي، كان فيه للمسلمين والأوروبيين نصيب على حد سواء".

ويمضي الكاتب إلى القول: "شهدت عشية الحرب العالمية الأولى ذروة الوحدة الإسلامية العالمية المتخيّلة؛ ففي خريف عام 1914 لجأ سلطان الإمبراطورية العثمانية إلى السلطة التي استثمرها بوصفه خليفة للجماعة الإسلامية العالمية، ليعلن "الجهاد" باسم العالم الإسلامي.

ولكن حتى في ذلك الزمن كانت هناك أصوات إسلامية قوية موالية للإمبراطوريات المعادية للعثمانيين؛ البريطانية والفرنسية والروسية ...إلخ. وفي العقد اللاحق مرّت المفاهيم المتصارعة، إسلامية وغير إسلامية، عن العالم الإسلامي، بتغيّرات جذرية... وخلال الحرب العالمية الثانية لعبت فكرة "العالم الإسلامي" دوراً مركزياً في الدعاية الإمبريالية بسبب سعي كلا المحورين المتحاربين إلى ضمان دعم المسلمين. ولكن فكرة عالم إسلامي شهدت تراجعاً في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ولم تظهر مرساة مركزية شبيهة بالمرساة العثمانية لهذه الفكرة".

ولهذا السبب أطلق على معارك النصف الأول من القرن العشرين، الفكرية والعسكرية، تعبير "معركة أوهام الجغرافيا/السياسية"، أي الجغرافيا التي لا وجود لها إلا في الأذهان وليس على أرض الواقع.

ويلاحظ، أنه في خضم الأحداث السياسية المتداخلة في السبعينيات والثمانينيات، مثل الصراعات العربية الإسرائيلية، والثورة الإيرانية، انبعثت نماذج تفكير عن رابطة إسلامية جامعة مثل تلك التي ولدت في عصر الإمبراطورية العثمانية، وكان يُنظر إلى العالم الإسلامي مرة أخرى كوحدة جغرافية/ سياسية، على الرغم من أن المجتمعات الإسلامية كانت تحت حكم أكثر من خمسين دولة وطنية في مرحلة توصف بأنها ما بعد استعمارية.

الفكرة العامة التي حكمت رؤية الكاتب واعتباره فكرة عالم إسلامي واحد فكرة خيالية، بل وأخيولية أحياناً، استندت إلى عدد من الأحداث التاريخية أظهرت فيها كيانات سياسية إسلامية لامبالاة تجاه الرابطة الدينية، مثل صد السلطان العثماني للسلطان الهندي المسلم "ديبو" الذي طلب مساعدته باسم الرابطة الإسلامية، في مقاومة الهجوم البريطاني على أراضيه في عام 1798، بل ونصحه بالتعاون مع البريطانيين، لأن العثمانيين كانوا حلفاء للبريطانيين آنذاك ضد الفرنسيين، فلم يجد ديبو بداً من طلب معونة "نابليون" ضد العدو المشترك.

ومثل معركة حصار فيينا في عام 1683 التي اعتبرها الكاتب مواجهة بين إمبراطوريات، وليس بين ديانات متنافسة أو حضارات، ومن يستخدمون اللغة الدينية في وصف هذه المواجهة "يغفلون حقيقة أن العثمانيين خاضوا هذه الحرب دعماً للهنغار البروتستانت، وكان هناك جنود مسيحيون في صف العثمانيين".

إن أبرز ما يتبيّنه أي باحث للحضارة العربية في مرحلتها الإسلامية، هو الوحدة في التنوع، وليس التشتت، على عكس ما يذهب إليه جيمل آيدن في خلطه بين مفهوم الجغرافيا السياسية والجغرافيا الحضارية، واعتبار تنوع أنظمة الحكم، والصراعات فيما بينها، دليلاً على انعدام الوحدة الحضارية.

ولكن هذا الخلط لا يمنعه من الوصول في نهاية المطاف إلى رؤية أن عدداً من الأفكار الرئيسية لا تزال تشكل كما يرى "جزءاً كبيراً من الفكر الإسلامي العابر للقوميات"، ومع أنه يعتبر بعضها خطأ، إلا أنه يقرّ برسوخه، مثل فكرة وجود حضارة إسلامية واحدة، وفكرة أن الإسلام دين عالمي شامل، وفكرة أن ما تعرض له التاريخ الإسلامي القريب العهد من تفكك للإمبراطوريات الإسلامية وخسارة للوحدة الحضارية سببه التدخل الأوروبي، وفكرة أن النزاع بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي نزاع أبدي.

واللافت للنظر هنا تأكيده على أن كل نظريات صدام الحضارات، وهذه الأخيرة إحداها، مبعثها أدبيات موضوعها القضايا العربية منتجة ومقروءة في الجامعات الأوروبية والأميركية، ويعاد إنتاجها في وسائط الإعلام الغربية. وفي هذا السياق يقول "ليس مدهشاً أن غالبية نصوص الدعوة إلى الجامعة الإسلامية أو الجامعة الآسيوية، والتي موضوعها الإسلام والغرب، أو النزاع بين العرق الأبيض والأصفر، أنتجها مفكرون مسلمون وآسيويون تعلموا في أوروبا والولايات المتحدة".

المساهمون