أهداف تهزّ شباك العنصرية

أهداف تهزّ شباك العنصرية

12 يوليو 2018
(مقطع من لوحة "اللاعب" لـ سيدني نولان/ أستراليا)
+ الخط -

خلال شهر تموز/ يوليو الجاري، احتضنت مُدن فرنسا وبلجيكا مهرجانات احتفالية عارمة بسبب مباريات كأس العالم والنجاحات التي حققها فريقا البلديْن. وكلاهما يضمُّ عدداً كبيراً من اللاعبين، أصولهم أفريقية أو عربية. ونكاد نجزم أن تلك النجاحات لم تكن لِتتحقق دون لمساتهم الساحرة.

وفي ذروة احتفالات فرنسا ليلة أول من أمس بفوزها على منتخب بلجيكا، نرى فرنسيين، بشعور شُقر وعيون زُرق، ينتمون إلى فئاتٍ طبقية وثقافية متباعدة، يحملون بفخار أقمصة لاعبين مثل رافايئيل فاران وكيليان امبابي وبول بوغبا، وهم من ذوي البشرة السمراء.

أما جماهير المنتخب البلجيكي فلم تُخف امتنانها لمساهمة لاعبين، من أصول مغربية كمروان فيلاني وناصر الشاذلي أو أفريقية كالكونغولي روميلو لوكاكو، في الانتصارات التي تُوِّج بها فريقه من قبل.

فعلى عفويتها، تثير هذه الاحتفالات إشكالاً ثقافيا حادًا: كيف تستطيع مباراة كرة القدم، وهي التي لا تتجاوز التسعين دقيقة لعبًا، أن تذوِّب خطاب "الهوية الوطنية" الشائع في مثل هذه البلدان، في حين تعجز عن ذلك أدبيات السياسة وعقلانيات الفكر؟ فخلال أجواء الفرحة، يشهد مفهوما "الوطنية" و"الهوية القومية"، تحوّلاً جوهرياً: إذ ينجح هذا الحدث الرياضي، ذو البعد الفرجوي، في ما تفشل فيه سياسات الإدماج وقرارات الحكومات المتعاقبة، والميزانيات التي تضخها لتحقيق ما سماه الرئيس الفرنسي السابق شيراك (1995-2007) "اللحمة الاجتماعية" جبرًا لـ"الكسْر" الحاصل بين مختلف شرائح المجتمع الفرنسي، وهو الكسر الذي يباعد بين الفرنسيين "الأصلاء" والمهاجرين وأبنائهم حين باتوا يشكلون "أقلية مرئية"، مُهمة ومُربكة.

في هذه الأيام، تقف جماهير فرنسا وراء لاعبيها وقوف شعبٍ خلف مقاتليه، ترى فيهم التعبير الأسمى عن فكرة الوطن والتجسيد الأمثل لوحدة الانتماء وصدقه. ومن مظاهره تعليق الأعلام على سطوح المنازل وواجهاتها، والألسن تلهج بهذا الدعاء « Que la France gagne! » أي:"لِتفُزْ فرنسا!"، كما تَغيب صراعات الأحزاب ومناكفاتها بين يمينها ويسارها، ومماحكات الطبقات الاقتصادية، مُعدمها وموسرها، ولاسيما بين أصلاء البلد ومتوطنيه، فكلهم يصطفون في خط واحد. وقلما تشهد أجواء السياسة هدنة كهذه التي نعيشها في أيامنا ضمن أجواء "وحدة وطنية"، لا نظير لها إلا لحظات الانتشاء بفوز فرنسا في مونديال 1998. ووقتها بزغ نجم اللاعب ذي الأصول الجزائرية زين الدين زيدان الذي كان أهم صانعي ذلك الانتصار، فتحوّل في ظرف قصير إلى رمز وطني وعلّقت صوره في كل مكان، حتى على قوس النصر بباريس، ما أثار استياء اليمينيين فأزبدوا: كيف يوضع هذا الفتى "الجزائري" في مقام أيقونات فرنسا، مع نابليون وشارل ديغول وفولتير؟ وذهبت أصواتهم أدراج الرياح، في غمرة الاحتفال بنيل كأس العالم والالتفاف حول الوحدة الجماهيرية النادرة. والمفارقة الكبرى: لم يكن يحق لوالده "الأجنبي" الإدلاء بصوته في الانتخابات!

في مستوى سوسيولوجيا الهوية، تمارس كرة القدم أكبر عملية جمعنة socialisation، تقوِّي عبرها وشائج القربى بين مكونات المجتمع وتصهرها في مبدأ الهوية، فيتحول لديها شعورًا بوحدة المصير المشترك وتتلاشى مظاهر التوتر والتدافع ولو إلى حين. والعجب أن تتفوق هذه الاحتفالات على كل التنظيرات والبناءات العقلانية الهادفة إلى توحيد الهويات وصهرها في انتماء وطني واحدٍ. بل يبدو مسار الجمعنة الرياضية أمتن بكثير من سياسات الإدماج التي يعتبرها البعض منافِقة، وفي أحسن الأحوال، قصيرة المدى وغير كافية، لأنها، في رأيهم، تخدم الأجندات الانتخابية وتهدد سكان الضواحي المهمّشين، كلما حَزَبهم أمر واندلعت في أحيائهم الفتن، مثلما يحصل الآن في مدينة نانت الفرنسية.

إلا أن إحساس النخوة الوطنية هذا، رغم أهميته، يظل عرضيًا عابرًا، بمثابة "استراحة محارب" ضمن صراعات التكتلات وارتباك السلطات أمام قضايا التفاوت الطبقي واندماج الضواحي وتشظّي الحس الوطني، إلى جانب تنامي ظاهرة الإرهاب التي صارت تربطها آلياً بالعرب المسلمين.

بعيداً عن السياسة والسياسيين، فحين تنجح مباريات كرة القدم في صهر الفرنسيين والبلجيكيين، وكذلك الألمان والإنكليز، دون تمييز في الأصل البعيد، فإنها تفعل أكثر مما يأمله المتفائلون من دعاة نبذ التمييز العنصري. إذ رغم ما تستند إليه خطاباتهم الإنسانية من حجج عقلانية وقيم نبيلة، فإنها قلما تصل إلى آذان الأوروبيين وعقولهم، ناهيك عن تغيير سلوكهم. وها إن هدفاً يسجّله لاعب أفريقي في المنتخب الفرنسي يفعل ما لا يقدر عليه أكثر مقالات آلان غريش إقناعاً أو أكثر مؤلفات بات أندري تاغييف تماسكاً، وهما من أبرز من فنّد مقولات العنصرية نظرياً.

ومن جانب آخر، وهذا من مفارقات كرة القدم، تُسقط اللعبة مقولات الشق "الفكري" المقابل، الذي لا يزال ينفخ في نعرات التفرقة بين الفرنسيين، فيقسّمهم إلى أصلاء وآخرين مواطنين من درجة ثانية بسبب أصولهم، ومن ذلك أقوال كتّاب خطاب العنصرية مثل آلان فينكلروت وميشيل ويلبيك. فما عساهم يقولون حين يرون جماهير الفرنسيين موقنين أنه لا فرقَ بين لاعب وآخر إلا بالموهبة والجهد على الميدان؟ ألا تتهاوى مقولاتهم مع كل هدف يسجله لاعب عربي/إفريقي؟

ثمة ظاهرة أخرى تجدر دراستها وهي خلفيات هذا التنوّع الإثني في المنتخبات الأوروبية. فحين نقرأ ما بين سطور التنافس الرياضي، ندرك أن هذه الفِرق إنما تقوَّت بعناصر من أصول متعدّدة على أساس الكفاءة والمهارة، وبذلك حقّقت ما حقّقت من التوفيق الرياضي. أما الفِرق التي لا تزال تصرّ على "العرق الموحَّد" فتجد نفسها في الصف الثاني من المنافسات. ولا يمكن أن ننسى هنا أنَّ المنتخب الألماني، الفائز بالنسخة السابقة من كأس العالم (2014)، كان من أبرز لاعبيه التونسي سامي خضيرة والكردي-التركي مسعود أوزيل. وما حققته منتخبات فرنسا وبلجيكا وإنكلترا أيضاً، في كأس العالم الحالية يؤكّد أن تجاوز التقسيم العرقي، والترفّع عن مقولاته المتهافتة، دعامة أخرى من دعامات الفوز الرائع.

الانتصارات وما يحفّ بها من احتفالات جماهيرية، وهذه التي شهدتها البارحة كل مدن فرنسا، مما ينبغي أن ينتبه له الباحثون في علم الاجتماع ودراسات الهوية والثقافة ومجالات أخرى. سؤالٌ محرج يطرح على مجتمعاتهم: لماذا يبقى هذا التلاحم في المجتمع الفرنسي حسّا عابرا وشعورا هشًا، يزول مع زوال ذكرى بطولة تمر وأخرى يُعدُّ لها؟

المساهمون