"ركب النحس"... لبنانيون ليسوا في يومهم

"ركب النحس"... لبنانيون ليسوا في يومهم

14 يوليو 2019
من المحظوظ بينهما ومن المنحوس؟ (حسين بيضون)
+ الخط -

عبارة "ركب النحس" يؤمن بها كثيرون في لبنان، خصوصاً أنّ الفرص ليست كبيرة بدوافع من الفشل التنموي، الذي يدفع كثيرين إلى الاتكال على الحظ السعيد، غير المتوفر غالباً

بداية عام 2006، اضطرت ندى إلى بيع الشقة التي تعيش فيها مع ابنتيها وابنها، بهدف توفير المال اللازم لابنها من أجل فتح متجر لبيع الهواتف المحمولة، وكذلك من أجل تزويجه. وهكذا عاشت مع ابنتيها في منزل والدتها في القرية الجنوبية، بينما استأجر ابنها غرفة لسكنه بالإضافة إلى المحل، على أن يعمل لاحقاً على الزواج، وكذلك على إعادة والدته وشقيقتيه اللتين في سنّ المدرسة لاحقاً بعد تحقيق الأرباح اللازمة من المتجر. المبلغ الذي تمكنت ندى من الحصول عليه من جراء بيع الشقة، التي تركها زوجها الراحل قبل بأعوام، كان 35 ألف دولار أميركي، طار أكثر من نصفه على متجر ابنها. لكنّ المتجر الذي بدأ بعد أشهر من الكساد بالانطلاق، أصيب بنكبة كبرى تسببت بها حرب يوليو/ تموز في العام نفسه، أي العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي استمر 33 يوماً. توقف المتجر عن العمل تماماً. هربت ندى وابنتاها ووالدتها من الجنوب إلى الغرفة الوحيدة التي يستأجرها ابنها في الضاحية الجنوبية لبيروت. عاشوا أياماً هناك قبل أن يهربوا مجدداً باتجاه الجبل. وطوال أيام العدوان وما فيها من نفقات غير متوقعة لم يبقَ مع ندى شيء من المال، كما لم يبقَ مع ابنها. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ المبنى الذي كان المتجر فيه أصيب مباشرة بالقصف وهدم على كلّ ما فيه.




انتهت الحرب، وعاد الشاب مع والدته وشقيقتيه وجدته إلى الجنوب. حصل على تعويض مالي ضئيل لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار، على ما حلّ بمتجره الذي كان يضمّ بضائع تتجاوز عشرين ألف دولار، كما تقول والدته. ذهب حلم الربح وتأجل مشروع الزواج تماماً. لكنّ الأسوأ كان بالنسبة لندى أنّ الشقة التي باعتها قبل الحرب بأشهر بـ35 ألف دولار، قفز سعرها بعد الحرب بأشهر قليلة، وباعها مالكها الجديد بـ110 آلاف دولار. هو النحس - وليس شيئاً آخر- كما تقول لـ"العربي الجديد". منذ ذلك التاريخ لم تتمكن ندى أو ابنها من التعافي.

تزوجت الابنتان في القرية زيجتين بسيطتين. ماتت الجدة، وتعيش الأم مع ابنها حتى اليوم في بيتها، الذي لا يمكن أن يستمرا فيه إلى الأبد، فهو ملك لشقيقها الأكبر. أما الشاب فيعمل أعمالاً بسيطة أغلبها تجاري، كي يوفر ما يعيش به مع والدته التي لم تعد منذ فترة إلى تذكيره بضرورة الزواج.



رهان خاسر
"النحس" الذي تتحدث عنه ندى، قد يكون سوء تدبير، وقد يكون بسبب آخرين أو بسبب أخطائهم، لكنّ كثيرين مقتنعون بأنّهم منحوسون، خصوصاً إذا ما قارنوا أنفسهم بغيرهم، من المحيطين بهم أو البعيدين عنهم، والذين يماثلونهم في الظروف، كما يرون. على هذا الأساس، تعتبر ليلى نفسها منحوسة، بعد سلسلة من حوادث الفشل الذي كان بعضها مريراً على صعيد العلاقات العاطفية أو على الصعيدين التعليمي والمهني. لكنّها تمكنت من التغلب على ذلك، من خلال اعتمادها مبدأ أساسياً هو "الاستخارة الشرعية". تقول لـ"العربي الجديد"، إنّها لا تقدم على أيّ خطوة هامة قبل تلك الاستخارة، فإذا فشلت بالرغم من الاستخارة، تعتبر أنّ الأمر أكبر بكثير من قدرتها عندها، فتلتزم بالدعاء: "اللهم إنّا لا نسألك ردّ القضاء لكن نسألك اللطف فيه".

غيرها ليس قانعاً مثلها بالقدر، خصوصاً إذا كان "النحس" الذي أصابه كبيراً، والخسارة لا يمكن ان تعوض. حسن مثلاً، ماتت عروسه في ليلة الزفاف. الشاب الذي كان في السادسة والعشرين يومها، أصيب بصدمة لم يشفَ منها بعد، وقد بات في الرابعة والثلاثين. كان يعمل مع والده الذي يملك متجر أدوات بناء، ويستعد للتخرج من الجامعة واستكمال دراساته العليا، فكان الزواج من حبيبة الطفولة حلماً يتحقق ويجعل حياته بالكامل بمثابة الجنة التي ستفتح أبوابها له. لكنّ كلّ شيء تغير، خصوصاً عندما بدأ يتناول مهدئات بوصفات طبية. لم يلتزم كثيراً بها، وانقطع كثيراً عنها، وكان ذلك يسبب له شروداً دائماً وغرقاً في الذكريات ونوبات بكاء طويلة عدا عن الانقطاع عن الدراسة، والتوقف عن العمل في متجر والده، والانعزال عن الآخرين في معظم الأحيان. الجميع يعتبر ما حصل معه "نحساً".




لكنّ "النحس" يتجلى في أمور يومية أبسط بكثير، فمثلاً، يوقع عيسى الأشياء من يديه منذ طفولته، فينكسر ما ينكسر ويفسد ما يفسد. معظم الملابس الجديدة التي يشتريها تتمزق منذ المرة الأولى، أو تتلطخ ببقع غير متوقعة وغير قابلة للإزالة. يعلق لـ"العربي الجديد"، أنّه اعتاد ذلك، ولا يبالي به: "حتى البحر الذي أسرق فرصة من العمل للذهاب إليه كلّ بضعة أسابيع، أجده مليئاً بالنفايات، أو بالقناديل، أو بأمواج مرتفعة جداً تمنعني من السباحة".

وبما أنّ الفكرة تحمل نقيضها معها، فالمنحوس يقابله المحظوظ، وألعاب الحظ كثيرة في لبنان، من اليانصيب واللوتو ومن "تفرق معهم على نمرة"، مروراً بسباق الخيل، وألعاب القمار. عدنان مراهن عتيق في سباق الخيل وغيره. البحري الخمسيني قلّما يربح، بل يعتبر نفسه منحوساً تماماً، لكنّه مع ذلك لا يملك أن يتوقف عن المراهنة. في بداية الأسبوع يلعب يومياً الورق والطاولة في المقهى المجاور لعمله في ميناء بيروت، ويخسر مبالغ قليلة، سواء كانت نقداً أو لدفع حساب المشروبات. ومرة أو مرتان في الشهر يقصد كازينو لبنان، ويلعب بالعصارات (ماكينات سلوتس)... ويخسر أيضاً. كلّ يوم أحد يراهن في أشواط عديدة في سباق الخيل، ولا يربح غير القليل بينما تكون خسارته أكبر بكثير وقد تصل إلى 300 دولار. لكنّه في أحد أيام الآحاد، وكان صيفاً، ربح في السباق نحو 1400 دولار. شعور عدنان بأنّه محظوظ جعله يظنّ نفسه قادراً على استعادة كلّ ما خسر طوال عمره. هكذا أنهى عمله في الليلة نفسها، وذهب إلى الكازينو. خسر سريعاً المبلغ الذي ربحه في السباق، ومعه مبلغاً إضافياً كان معه. شغّل سيارته وعاد إلى بيروت مرة أخرى، فاستدان من عدد من الأصدقاء ما وصل إلى 900 دولار، ومنها مجدداً إلى الكازينو، ليخسر كلّ شيء مجدداً. عاد إلى الميناء، شرب ما شرب ونام طويلاً. هو يؤمن بأنّه منحوس، لأنّه لولا ذلك لاكتفى بما كسب في السباق، وسعد به: "لكنّ النحس أقوى ولم يتركني في حالي".



العلاج مطلوب
"لاحقني النحس، ما إلي حظ، طول عمري منحوس"، عبارات تبدأ الأستاذة المتخصصة في علم النفس الاجتماعي، مايا ماضي، حديثها إلى "العربي الجديد" بها، لتشير إلى أنّها "عبارات لطالما سمعناها، ومنا من يغرق فيها، ومنا من يتأثر تأثراً عابراً بها، ومنا من لا يعيرها اهتماماً. لكن، لا بدّ من التساؤل: إلى أيّ مدى هي صحيحة؟". تتابع: "ليس النحس، من وجهة نظر نفس - اجتماعية، موضوعاً علمياً؛ هو من الخوارق التي لا تفسرها العلوم. هو عبارة عن أفكار متداولة يلجأ إليها الأشخاص المتشائمون الذين يميلون في تفكيرهم إلى الأفكار السلبية. يسعى بعض هؤلاء، في تصرفاتهم، إلى جذب انتباه الآخرين، من خلال ممارسة دور الضحية، الذي يلبي أغراضاً نفسية لا واعية لديهم. من هنا، يعيش الفرد الروتين اليومي بأفكاره وسلوكه، ويقع ضحيتهما، ويعلق في دوامة يصعب الخروج منها، ما لم يقرر أن يتغير ويبعد عنه الإحباط اليومي، وهو ما يساعد فيه العلاج العيادي".

تضيف ماضي: "من الضروري أن نميز ما بين الخوف الطبيعي والخوف الذي يسيطر علينا؛ فتكرار العبارات السلبية، يؤدي إلى إغراقنا في التفكير السلبي، فتصبح أفكارنا مقحمة في مواقف تواجهنا يومياً: رقم 3 نحس، الإثنين دائماً نحس، اللي ما إلو حظ لا يتعب ولا يشقى... لا تفتحوا الشمسية (المظلة) بالبيت، لا تقلبوا الحذاء، المنحوس منحوس لو على راسو فانوس، المقص المفتوح خبر سيئ، حلمت حلماً بشعاً سيحدث معي سوء، البومة تجلب الموت... هكذا قد يدخل الشخص في اضطراب الوسواس، فيعاني القلق والمعاناة، ويسبب الإزعاج لمن هم حوله أيضاً".




تتابع التفسير: "لا بدّ من العلاج، فليكون الشخص إيجابياً عليه أن يتعلم هذا، فيبتعد عن الأزمات، وذلك من خلال العلاج العيادي لدى متخصصين يوفرون السرية التامة، ويبيّنون للصابر (مصطلح متخصص يشير إلى الفرد الذي يتلقى العلاج النفسي، بحسب ماضي) سبب وأساس أفكاره ومخاوفه اللاواعية، وهو ما يساعده في تصحيحها وبناء أفكار إيجابية ومنطقية ربطاً بالواقع الذي يعيشه". تشير إلى أنّ العبارات السابقة هي "من المعتقدات التي توارثتها الأجيال لتكون تبريراً دائماً للإنسان المقيد بأفكاره السلبية، من دون أن يدرك مدى صحتها أو مصداقيتها، ومن دون أن يعثر لها على دليل منطقي".

في المقابل، تشير ماضي إلى أنّ "الشخص الإيجابي قد يكون أكثر تهيّؤاً لحظ أوفر، وما ذلك إلّا نتيجة لأفكاره الإيجابية التي تدفعه إلى سلوكٍ إيجابي. لا ننكر قوة الظروف وأحكامَها، لكن على الإنسان أن يواجه نفسه وظروفه بالوعي".

دلالات