قلنسوة خضراء وبيضاء

قلنسوة خضراء وبيضاء

01 أكتوبر 2014
لم يصمد أكثر من أشهر قليلة بعيداً عن بيته(Getty)
+ الخط -

91 عاماً. هكذا تأتي النتيجة. وتفزع. هي مجرّد لعبة إلكترونيّة سخيفة. لكن الرقم يجعلها تفزع. وتعود إليها تلك الرائحة، كأنها تتنشّقها في هذه اللحظات بالذات. ويعود إليها ذلك المشهد، مع الرائحة.

في الثانية عشرة من عمرها، بمريول المدرسة، تزور جدّها في دار العجزة. تحمل إليه كما في كل يوم، بسكويت "دبكة". هو يحبّ هذا النوع المحشوّ بكريمة حلوة المذاق وحامضة في الوقت نفسه.

في القاعة المشتركة، يجلس شيوخ. جميعهم من الذكور. تلك الرائحة الغريبة هنا، تجعلها تشعر بالغثيان. تفتّش ووالدها عن الجدّ أبو عفيف وقلنسوته الخضراء والبيضاء التي لم يكن يتخلى عنها. لطالما اعتاد تغطية رأسه. إما بفوطة بيضاء عندما كان يعمل في الحقل أو ينقل البضائع على ظهر بغله قبل زمن بعيد، وإما بقلنسوة في الأيام العاديّة، وإما بطربوش أحمر يتناسب مع "البدلة الفرنجيّة" التي كان يرتديها كلما خرج من المنزل.

ما زال ذلك الطربوش الأحمر بشرّابته السوداء، في إحدى خزائن العائلة.

على إحدى الكنبات، يجلس وحده وقد طأطأ رأسه. هكذا تجدُه في كل مرّة. وتظنّ أن الرائحة التي تُشعِرها بالغثيان، تُسبّب له الانزعاج عينه.

كان ذلك قبل 26 عاماً. أما اليوم، فتدرك أن تلك الرائحة لم تكن تخنقه وأن دور العجزة في بلادنا ليست كتلك التي تصوّرها أفلام هوليوود. في دور العجزة عندنا، لا يقيم الممرّضون حفلات للمسنّين ولا يدثّرونهم قبل النوم عندما يشعرون بالكآبة ولا يرافقونهم في نزهات عندما ينقطع عنهم أبناؤهم فجأة.

في دور بلادنا، الممرّضة تتجاهل العجوز أو تصرخ به حين يقول لها إنه يشعر بألم ما، مثلاً. هذا ما شهدَته في ذلك الزمن، في أكثر من مرّة، من دون أن تتوقّف عنده.

وتُدرك أيضاً أن ما تُصوّره هوليوود، ليس الواقع كاملاً. فغربيّون كثر لا يعرفون تلك "الأوقات السعيدة والهانئة" في دورهم تلك. لكنهم، يستفيدون أقلّه من نظام رعاية تؤمّنه لهم السلطات المعنيّة. وهو ما لم يكن متوفّراً للجدّ أبو عفيف في ذلك الزمن، وما زال غير متوفّر اليوم.

في ذلك الزمن، اضطرّت العائلة إلى إدخال الجدّ إلى تلك الدار الخاصة. فعلت ذلك وقد ظنّت أن العناية ستكون على مستوى عزّته.. أو هكذا افترضت. لكن الجدّ أبو عفيف لم يصمد أكثر من أشهر قليلة، بعيداً عن بيته الذي شيّده بعرق جبينه. ذاك العرق الذي تشرّبته فوطته البيضاء.

وتفزع من أن تصحّ حسابات تلك اللعبة وتعيش 91 عاماً. تفزع من أن تتنشّق من جديد تلك الرائحة التي كانت تجعلها تحسّ بالغثيان، ومن أن تصرخ بها ممرّضة ما عندما تشكو من الألم. فتشعر بالإهانة.

دلالات

المساهمون