استغلال طبي... سمسرة وفوضى واحتيال في مستشفيات لبنان

استغلال طبي... سمسرة وفوضى واحتيال في مستشفيات لبنان

08 يوليو 2018
هل يمنح مريضه العناية اللازمة؟ (حسين بيضون)
+ الخط -

تُعَدّ الطبابة في لبنان من الأفضل في المنطقة، لذا يقصد كثيرون هذا البلد بحثاً عن علاج أو للخضوع إلى جراحة. العراقيون، شأنهم شأن مواطنين عرب وأجانب، يتوجّهون إلى لبنان لهذه الغاية. لكن، ثمّة مشكلات يواجهونها.

قبل أشهر، وصل أبو أحمد إلى مطار بيروت آتياً من بغداد، بغرض العلاج. استقلّ سيارة أجرة من المطار، فعرض عليه السائق مرافقته في رحلة علاجه. رحّب أبو أحمد بالعرض، خصوصاً أنه لا يعرف شيئاً عن البلد ولا عن تفاصيل العلاج فيه. وهو، بحسب ما يقول، قرر المجيء إلى لبنان لأنّه "يحظى بثقة عمياء من قبل العراقيين على المستوى الطبي".

قصد الرجل الستيني واحداً من أبرز مستشفيات بيروت وبدأ بالإجراءات المطلوبة لعلاج السرطان الذي أصاب رئتَيه. في مساء اليوم التالي، ساءت حالته، فاتصل بسائق سيارة الأجرة نفسه طالباً منه إيصاله إلى المستشفى حيث قدّم أوراقه. لكنّ السائق أوصله إلى مستشفى آخر في منطقة أخرى، فأُدخل إلى قسم الطوارئ ودفع مبلغ 1200 دولار أميركي مقابل تزويده بمصل وحقنة. بعد ذلك، خرج من دون أن يتمكّن من الاعتراض على ما حصل، فـ"أنا لا أفهم شيئاً هنا".

أمّا قبل أسابيع، فنُقل محمد على عجل وبحذر من بغداد إلى بيروت لإجراء عملية جراحية دقيقة في النخاع الشوكي الذي تضرّر من جرّاء تعرّضه لحادثة سيارة. ولأنّ حالته المادية ليست ميسورة كفاية، قصد الشاب الثلاثيني مستشفى من الدرجة الثانية، حيث أخبروه بأنّ كلفة العملية تراوح بين ثمانية آلاف و10 آلاف دولار. أودع المبلغ في قسم المحاسبة في انتظار إجراء العملية، وهنا بدأت المماطلة. فعدا عن إجراء فحوصات جديدة بين الساعة والأخرى، ارتفعت كلفة العملية الجراحية في اليوم التالي من 10 آلاف إلى 15 ألف دولار "لأنّ طبيباً ثانياً سوف يتدخّل فيها نظراً إلى حساسيتها"، بحسب ما قال له الأطباء. وبعد تحديد موعد جديد للعملية "العاجلة"، استمرّت المماطلة حتى وصل المبلغ إلى 28 ألف دولار بعد خمسة أيام، بحسب ما يخبر أحد أقرباء محمد. يضيف أنّ "أحد الممرضين نصحنا قائلاً: خذوا مريضكم وغادروا. فانتقلنا إلى مستشفى آخر وأجرينا العملية بكلفة 22 ألف دولار. لكنّه لا يعقل أن تكون المتاجرة بالطبّ بهذه الطريقة".



هاتان حالتان من عمليات نصب وسمسرة عدّة، أبطالها لبنانيون بالدرجة الأولى بالاشتراك مع عراقيين وبعض المستشفيات والأطباء. وتلك العمليات قد تبدأ في لبنان، بينما يبدأ بعض آخر منها في العراق لينتهي في لبنان. أمّا السماسرة الذين "يتصيّدون" العراقيين فكثر، وتتعدّد طرق عملهم. بعضهم يترقّب وصول العراقيين إلى مطار بيروت، ولعلّ سائقي سيارات الأجرة أكثر من يتقن هذه الطريقة. إلى ذلك، ينسّق عراقيون آخرون مع مكاتب خاصة بـ"السياحة الطبية" في العراق، يديرها لبنانيون وعراقيون يعمدون إلى إرسال المرضى إلى هؤلاء السماسرة ليتكفّلوا بمرافقتهم. هذا ما يفيد به أكثر من مصدر لبناني وعراقي مطّلع على الموضوع "العربي الجديد".

انخفاض إلى الربع

وهذه العمليات التي لا تندرج بمعظمها في إطار شبكات منظّمة، بحسب المصادر ذاتها، ازداد حجمها في السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذي جعل عدداً كبيراً من العراقيين الذين كانوا حتى عام 2016 يعدّون لبنان وجهتهم الأساسية للطبابة، يفتشون عن بلدان أخرى. وصارت تركيا والهند وإيران وجهات بديلة لهم. هذا ما أكدته أرقام وزارة السياحة اللبنانية التي صرّح وزيرها أواديس كيدنيان في وقت سابق بأنّ عدد السياح العراقيين الآتين إلى لبنان بغرض العلاج، انخفض بعدما كان الأوّل. وبعدما كان 800 ألف شخص في عام 2016 صار 270 ألف شخص في أواخر عام 2017. وعزا كيدنيان السبب إلى "عمليات النصب الكبيرة التي تلجأ إليها مستشفيات بحقّ المريض العراقي، وعدم خضوعها إلى الرقابة المشروطة أو المساءلة من قبل وزارة الصحة العامة في لبنان".

كلام وزير السياحة يدعمه كلام نائب السفير العراقي في لبنان أحمد جمال، الذي يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "العدد ما زال في انخفاض مستمر منذ ثلاثة أعوام وحتى النصف الأوّل من عام 2018. وفي حال بقي الوضع على ما هو عليه، سوف يقلع العراقيون عن السياحة العلاجية في لبنان". ويتحدّث جمال عن السماسرة الذين "تطوّر عملهم لدرجة فتح مكاتب سياحة طبية في العراق، وقد أغلقت الحكومة عدداً كبيراً منها، لأنّنا نراها مكاتب نصب".

وثمّة مستشفيات لبنانية تنتظر المرضى العراقيين على وجه الخصوص وتفضّلهم على بعض المرضى اللبنانيين، لأنّ هؤلاء يندرجون في خانة "المريض الخصوصي"، أي أنّهم ليسوا مرتبطين بضمان صحي أو شركات تأمين في لبنان ولا رقابة مباشرة على فواتيرهم، عدا عن أنّ كثيرين منهم يصلون إلى لبنان وهم غير مدركين لحالاتهم أو طبيعة العلاج الذي يحتاجون إليه، ما يسهّل عمليات الاحتيال عليهم ووقوعهم في أيدي السماسرة.




في السياق، تخبر ممرضة في أحد مستشفيات بيروت "العربي الجديد"، كيف ترافق نساء لبنانيات المرضى العراقيين، لا سيّما النساء منهم، ويتولّينَ الحديث والتواصل مع المعنيين في المستشفى. كذلك، يقول موظف في قسم المحاسبة في مستشفى آخر كيف سمع أحد الأطباء وهو يقول إنّ "هؤلاء الذين يأتون إلى هنا حالتهم ميسورة، فلا مشكلة في رفع التكاليف عليهم"، علماً أنّ الذين قابلناهم أخبرنا معظمهم بأنّهم استدانوا أموالاً لكي يصلوا إلى لبنان أو باعوا بعضاً من ممتلكاتهم لتأمين مصاريف العلاج في بيروت.

ضياء من هؤلاء المرضى الذين التقتهم "العربي الجديد" في واحد من أبرز مستشفيات بيروت، وقد خضع لجراحة نتيجة إصابته بانزلاق غضروفي في ظهره. واضطر الشاب البالغ من العمر 26 عاماً، إلى بيع سيارتَين كانت تملكهما عائلته من أجل تأمين تكاليف العملية. وعلى الرغم من أنّه يثني على جودة الطبابة في لبنان، فإنّه يشكو من كلفتها المرتفعة. ويخبر ضياء بأنّه قبل إجرائه الجراحة استشار طبيبَين في المستشفى نفسه حيث أجرى جراحته، أوّلهما طلب 23 ألف دولار، في حين طلب الآخر 33 ألف دولار. وبعد مفاوضة الطبيب الأوّل، وصلت الكلفة إلى 20 ألف دولار.

في السياق، يوضح نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون، لـ"العربي الجديد"، أنّ الأسعار قد تختلف من طبيب إلى آخر ومن مستشفى إلى آخر بحسب التصنيف، لكنّه من غير المفترض أن يزيد الفارق عن 25 في المائة كحدّ أقصى، وإلا فإنّه من الممكن الحديث عن عمليات نصب مؤكّدة. وعن حالة ضياء، يقول هارون: "لا أستغرب حصول هذا الاستغلال. منذ البداية يتضح أنّ ثمّة أمراً مشبوهاً، لأنّ تحديد قيمة العلاج ليس من اختصاص الطبيب بل مكتب الدخول أو قسم المحاسبة في المستشفى".

تقاذف المسؤولية

"النصب على العراقيين؟ بصراحة، ليست لديّ أيّ تفاصيل عن هذه القضية ولا يمكنني الحديث عن أمر لا أملك أدلّة عليه". بهذا يردّ مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية جوزيف الحلو، على سؤال "العربي الجديد" حول الموضوع. ويفاجأ في الوقت ذاته من تصريح وزير السياحة اللبنانية، قائلاً: "لم أسمع به". يضيف الحلو: "طالما أنّ لا حالات أو أدلة ملموسة بين أيدينا، لا نستطيع فعل شيء. نريد شكاوى ملموسة حتى نتمكّن من التعامل معها، ونحن نرحّب بذلك".



إلى ذلك، يفيد مصدر في وزارة الصحة بأنّ "هذه الأمور تحصل بالفعل. وثمّة لبنانيون يستفيدون من البطاقات الصحية التابعة للوزارة، فيحصلون عبرها على أدوية للأمراض المزمنة، كالسرطان مثلاً، ثمّ يبيعونها للعراقيين". يضيف أنّ "سوق الأدوية باهظة الثمن مفتوح، والعراقيون من بين المستهدفين". ويتابع المصدر نفسه أنّه "على الرغم من ذلك، تبقى هذه الأعمال عصيّة على الكشف طالما أنّنا لا نملك دليلاً عليها، خصوصاً أنّ الوزارة غير مسؤولة عن متابعة الأعمال التي تحصل خارج نطاق المستشفيات الحكومية". ويلفت إلى أنّ "المستشفيات الخاصة، وهي التي يقصدها العراقيون، تقع مسؤولية متابعتها على نقابة المستشفيات الخاصة. كذلك فإنّ الوزارة ليست مسؤولة عن ملاحقة السماسرة الذين يتورّطون بعمليات احتيال، فهذا الأمر من مسؤولية الأجهزة الأمنية".

وعند سؤال نقيب المستشفيات الخاصة عن الموضوع، يحاول هارون تجنّب الحديث عن "الموضوع الحساس"، مسقطاً المسؤولية عن نقابته كذلك. ويشرح لـ"العربي الجديد"، أنّ "أساس المشكلة يكمن في عدم التنظيم، فلا عقود بين المعنيين في العراق وبين المستشفيات أو القطاع الطبي في لبنان. وهؤلاء بمعظمهم يأتون عن طريق سماسرة، بالتالي فإنّ الأمور سائبة وغير مضبوطة". وبهدف تنظيم "السياحة الطبية"، ثمّة شروط عدّة، بحسب هارون. ويشرح أنّه "لا يُعقل أن يصعد المواطن العراقي إلى الطائرة ثمّ ينزل في بيروت ويدخل إلى أيّ مستشفى كان ويسلّم نفسه لأيّ طبيب ومن ثمّ ترتفع الصرخة. من الضروري أن يكون ثمّة تنسيق مسبق لهذه العملية مع المعنيين". ويشدد على أنّه "في البداية يجب أن تكون العقود واضحة بين جهات معروفة في البلدَين، سواء أكانت جهات رسمية أم خاصّة. وبعد ذلك، ترسل تلك الجهات ملف المريض إلى المستشفى المطلوب على أن يتضمّن عرضاً مفصّل لحالته الصحية. فيُدرَس الملف ويُقدَّم شرح للمريض لكل التفاصيل المتعلقة بحالته وبالعلاج الذي سوف يخضع له والكلفة التقريبية التي ستترتب عليه وكذلك مدّة الاستشفاء، قبل أن يأتي إلى لبنان".

ويؤكّد هارون أنّ "النقابة واعية لهذا الأمر، وقد قدّمت خطة عملية لتطبيق هذه الشروط، لكن الأمر أكبر منّا وتدخل فيه دوائر وجهات رسمية ووزارات عدّة إلى جانب القطاع الخاص. ونحن كنقابة لا يمكننا تنظيم هذه الفوضى إذا لم تتدخّل الحكومة لتشجيع السياحة الطبيّة وتصدر قراراً يقضي بذلك، بالتعاون مع كل الجهات المعنية، ومن ضمنها وزارة الداخلية التي تصدر التأشيرات لتنظيم وصول الآتين إلى لبنان بغرض العلاج وحمايتهم".

وفي حين تطالب وزارة الصحة العراقيين بتقديم شكاوى، يؤكد هارون "ضرورة إقرار تشريعات جديدة تحمي المريض الأجنبي وتتيح للأجهزة المعنية النظر بسرعة في شكواه والبتّ فيها، كي لا يضطر إلى الانتظار طويلاً في أروقة المحاكم اللبنانية مثلما يحصل عادة".



السفارة ترفض الاتهامات

مرضى عراقيون كثر في لبنان أكّدوا لـ"العربي الجديد"، أنّهم لا يؤمنون بدور سفارة بلادهم ببيروت في تقديم المساعدة لهم. ويقول أحدهم إنّه طلب مساعدة السفارة قبل عام تقريباً للتدخّل لدى أحد المستشفيات اللبنانية من أجل استقبال ابنه، "لكنّها لم تفعل شيئاً". ويبرر نائب السفير العراقي أحمد جمال الأمر قائلاً إنّ "السفارة تتعامل مع مؤسسات الدولة اللبنانية، وليس من صلاحياتها التعامل مع المؤسسات الخاصة، على الرغم من اضطرارها إلى التواصل معها في بعض الحالات". يضيف: "طرحنا ذات مرة على الدولة اللبنانية توقيع مذكرة صحية بين لبنان والعراق، ففوجئنا بالجانب اللبناني قائلاً إنّ الدولة لا تسيطر على المؤسسات الصحية الخاصة. وفي اعتقادي، هنا تكمن المشكلة وتجعل توقيع أيّ اتفاقية بلا جدوى".

ويشير جمال إلى أنّ "موضوع استغلال المرضى العراقيين في لبنان طُرح في أثناء زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون الأخيرة إلى العراق، ونحن جادون في الفترة المقبلة لتفعيل موضوع الشكاوى القضائية، ولن نتهاون مع أيّ حالة نصب أو احتيال أو ابتزاز مالي يتعرّض لها أيّ مواطن عراقي". ويرفض الاتهامات الموجّهة إلى السفارة بالتقصير، مؤكداً "نتابع دائماً مع وزارة الصحة، وفي مرحلة من المراحل وصلنا إلى فكرة نشر تحذير للمرضى العراقيين الآتين إلى لبنان حتى لا يقصدوا مستشفيات معيّنة. وللأمانة، فإنّ ثمّة مستشفيات عدّة أمينة وشفافة وتعاملها ممتاز".




خسائر بالمليارات

إلى ذلك، يقول هارون إنّ لبنان يخسر مليارات الدولارات من جرّاء الفوضى في قطاع السياحة الطبية، الذي يستطيع من خلاله إدخال مليارَي دولار سنوياً كحدّ أدنى. يضيف أنّ "هذه الخسائر سوف تتفاقم وتحرمنا من مصدر تمويل مهم قادر على تنشيط الاقتصاد اللبناني".

من جهته، يلفت جمال إلى أنّ "نحو ألف عراقي يدخلون إلى لبنان يومياً، وأقلّ مبلغ يصرفه الشخص الواحد هو 500 دولار، وهو ما يعني أنّ العراقيين ينشّطون السياحة والاقتصاد في البلد بمبالغ كبيرة ويومية. فلا يعقل في المقابل أن يجري استغلالهم، في الوقت الذي ينتظر فيه تأمين تسهيلات لحثّهم على العودة مجدداً". ويكمل: "للأسف، اليوم فقدت الثقة التي كانت موجودة، ولإعادتها لا بدّ من تحرّك جدي يحمي المريض العراقي من الاستغلال ويعيد إليه الطمأنينة".

المساهمون