الماضي المقيم

الماضي المقيم

09 مايو 2018
مكتبة في روسيا (ألكساندر ريومين/ Getty)
+ الخط -

تحفظ كتب التاريخ صفحات كثيرة عن إحراق المكتبات والكتب، بهذا المعنى ليس ما نعانيه استثناء. لكن ما كان مقبولاً في عصور غابرة لم يعد مقبولاً اليوم، باعتبار أن الإنسان يعيش في تطور يدفعه إلى الترقي في سلوكه، من البدائي إلى المتمدن العاقل المقيَّد بالشرع والدساتير والقوانين والأنظمة والأعراف.

مكتبة الاسكندرية واحدة من أشهر المكتبات التي تعرضت للحريق. بعض المؤرخين اتهم العرب بالجريمة، إلا أن ما هو ثابت تاريخياً أن المكتبة احترقت قبل وصول العرب بأكثر من مائتي سنة. والمعطيات تؤشر إلى أن المكتبة تعرضت للحريق مرتين، أولاها في العام 48 م في أعقاب سيطرة يوليوس قيصر على المدينة التي أنشأها كما هو معروف الإسكندر المقدوني وحملت اسمه على المتوسط. الواقعة الثانية بعد العصر الذي التزمت فيه الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، عاد بعدها الامبراطور بوليانوس إلى الوثنية وعمل على شن حرب لا هوادة فيها على المسيحية والقساوسة والرهبان وأعاد الاعتبار للوثنية عام 371 م. ولكن بعد مصرعه عادت الإمبراطورية إلى المسيحية وردَّت بإعلان حرب مفتوحة على الوثنية ورموزها، فكان نصيب مكتبة الإسكندرية الحريق ضمن الحملة المسعورة التي تعرضت لها المعالم الوثنية والتي قادت إلى تحويل معابدها إلى كنائس.

وكانت المرحلة الأخيرة من الحرائق في المدينة ولمكتبتها هي تلك التي أدت إلى مصرع هيباتيا في العام 415. قريباً من هذا التاريخ تحولت مكتبة القسطنطينية بدورها إلى رماد والتي كانت تضم في حينها قرابة 120 ألف كتاب. حدث ذلك بعد استيلاء بازيليسكوس بطريقة غير شرعية على الحكم، فعمت البلاد الفوضى وملأت أعمال العنف الشوارع التي سرعان ما التهمت نيرانها مكتبة المدينة في العام 430.



الحريق الأشهر في التاريخ هو ذلك الذي عانته بغداد في العام 1258 م عاصمة العباسيين على يدي القائد المغولي هولاكو الذي اكتسحها بجنوده وأباحها لهم، فكانت النتيجة أن دمرت مكتبات المدينة. يتحدث المؤرخون العرب عن أكداس الكتب التي ألقيت في نهر الفرات لتعبر عليها الخيول من ضفة إلى الثانية، وفيما كانت خيول الغزاة تعبر النهر كانت مياهه تصطبغ باللون الأسود من حبر المخطوطات والمؤلفات. ومن المعروف أن بغداد في حينه كانت من كبريات المدن في العالم الوسيط وأكثرها تقدماً باعتبارها مجمعاً للعلماء والأدباء والفقهاء والشعراء والأطباء والمنجمين من مختلف الطبقات والميول.

وفي أوروبا تولت الكنيسة الكاثوليكية أولاً مصادرة كتب الجماعات اليهودية وإحراقها، لكنها لم تكتفِ بذلك فقد قامت بإحراق المؤلفات والمؤلفين الذين وصمت أعمالهم بالهرطقة. وقد قام البابا غريغوار التاسع بإطلاق هذه الموجة التي شملت فرنسا وانكلترا والبرتغال وإسبانيا. وكانت الكتب تجمع في عربات الخيل وتؤخذ إلى الساحة العامة حيث يجري إحراقها بحضور الكهنة والجمهور. وبلغ الأمر أن قام مجمع لاتران بإصدار قرار بابوي قضى بإتلاف الكتب المترجمة من اليونانية والعربية والعبرية إلى اللغة اللاتينية لأنها كما جاء في القرار تحمل "مغالطات" و"مهرطقة " وتدعو إلى "العقائد المفسدة".

وعلى امتداد القرون اللاحقة تعرضت الكتب والمكتبات العامة إلى الاستباحة، وصولاً إلى العصور الحديثة حيث تولّت الفرق النازية والشيوعية والجماعات المتطرفة من كل لون شرقاً وغرباً مثل هذه المهمة. ما يعني أن المكتبة العامة باعتبارها مخزن ذاكرة الشعوب تعرضت للانتقام... لكن الشعوب والمكتبات عادت إلى الحياة، أما أولئك الذين حملوا مثل تلك الوصمات فلم يتبقَّ لهم سوى لعنة التاريخ.

(باحث وأستاذ جامعي)

دلالات

المساهمون