العرقسوس... ضيف موائد الدمشقيين في رمضان

العرقسوس... ضيف موائد الدمشقيين في رمضان

14 مايو 2020
يجهز كل شيء بانتظار الزبائن (دليل سليمان/ فرانس برس)
+ الخط -
تعدّ أجواء رمضان في دمشق مميزة خلال هذا الشهر، وكأنه يحييها من جديد. ويحرص أهلها على إحياء الطقوس المعتادة رغم الشدائد، علماً أن كورونا قسا على الدمشقيين هذا العام، لكن بقي "العرقسوس" متحدياً الإجراءات

"لرمضان في دمشق وفي أحيائها القديمة تحديداً نكهة خاصة لا تجدها في أي مدينة عربية أو إسلامية"، يقول أبو ماجد الشامي الذي لم يفارق مدينته على الرغم من أهوال الحرب التي شهدتها البلاد منذ عام 2011. يضيف: "هنا وليس في أي مدينة أخرى، لرمضان سحر خاص لا يعرفه إلا من عرف دمشق وعاش فيها. يحتفي الدمشقيون بشهر رمضان ويستعدون له قبل قدومه، فهم يعتبرونه ضيفاً محبّباً، ويزيّنون من أجله المساجد والبيوت".

في دمشق أو "الشام" كما اعتاد السوريون تسميتها لكونها مركز بلاد الشام، طقوس معينة خلال شهر رمضان، لم تتغير على مر السنين، ولعلّ أهمها شراب خاص بالشهر الفضيل هو العرقسوس، الذي عرفته المدينة منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً بحسب مصادر محلية. يقول أبو ماجد: "يكاد لا يخلو بيت دمشقي من هذا الشراب في شهر رمضان. هو ضيف موائدنا طيلة الشهر الفضيل".



ويتميّز بائع العرقسوس في دمشق بلباسه الموروث عن العهد العثماني، الذي امتد حكمه في بلاد الشام نحو 400 عام، وهو عبارة عن صدرية مزركشة وشروال أسود واسع، إضافة الى طربوش أحمر وإبريق نحاسي جميل يحمله على ظهره متجولاً في الأسواق والشوارع، مطلقاً صيحاته لجذب العابرين في الشوارع". وينادي: "شفا وخمير يا عرقسوس".

يقول أبو ماجد إنّ تحضير شراب السوس يتطلب مراحل عدة. أولاً، "تطحن أعشاب وجذور العرقسوس وتترك لتختمر حتى اليوم التالي، ثم توضع في شاش أبيض لتنقيتها من أية شوائب، ثم يصب الماء عليها بشكل دائم لزيادة التنقية. بعدها، تنقل إلى أوعية كبيرة لتباع للصائمين".

في رمضان وقبيل الإفطار، ينتشر بائعو العرقسوس في أماكن عدة في دمشق خصوصاً في الأسواق الشعبية، مثل سوق الحميدية، وسوق منطقة الشيخ محيي الدين بن عربي في الصالحية، وسوق منطقة الشيخ سعد في المزة غربي العاصمة، ومنطقتي المرجة والبحصة في قلب دمشق، إضافة الى سوق باب سريجة الشهير. لكن الظروف التي يمر بها العالم كله في ظل تفشي فيروس كورونا، وحظر التجوال الجزئي المفروض في دمشق، منع باعة شراب العرقسوس من الظهور بعد الإفطار في الأسواق الشهيرة وأمام المراكز التجارية الكبرى والمساجد بعد انتهاء صلاة التراويح.

وعلى الرغم من ارتفاع أسعار كل شيء، من مواد غذائية وخضار في دمشق خلال سنوات الحرب، إلا أن شراب العرقسوس ظل محافظاً على سعر معقول. ويباع الكيلوغرام الواحد بسعر يتراوح ما بين 200 الى 300 ليرة (ما يعادل ربع دولار أميركي تقريباً)، أي أنه ما زال في متناول الفقراء وقليلي الدخل في العاصمة السورية، التي لجأ إليها الكثير من السوريين خلال السنوات الماضية من محافظات عدة، بسبب الحرب.

وما يفسّر إقبال الدمشقيين على شراب العرقسوس، خصوصاً خلال رمضان، هو حلاوة طعمه وقدرته الكبيرة على ترطيب جفاف فم الصائم، إضافة الى فوائد صحية جمة. ويدخل مشروب العرقسوس في تركيب الأدوية المعالجة لآلام الحنجرة، وضيق التنفس، كما يستخدم لعلاج القيء المصاحب للحمل، والحموضة، ويمكن استخدامه لعلاج قرحة الفم، من خلال المضمضة أربع مرات يومياً، إضافة إلى المساعدة في علاج ضغط الدم المنخفض، ويعد من أفضل المشروبات لمرضى السكري، لأنه يحتوي على سكر طبيعي.

كما يضم العرقسوس الكثير من أملاح البوتاسيوم والكالسيوم. وبحسب الأطباء والصيادلة، فهو منشط عام للجسم، ويعالج الربو ويساهم في شفاء الروماتيزم لاحتوائه على عناصر الهيدروكورتيزون، إضافة إلى دوره في تقوية جهاز المناعة في الجسم.

ينبت العرقسوس الذي يرجع تاريخه إلى نحو أربعة آلاف عام، على أطراف الأنهار الكبيرة في سورية مثل نهر العاصي ونهر الفرات، وفي مناطق الساحل السوري، ومناطق عدة في ريف دمشق، خصوصاً منطقة دوما في غوطة دمشق الشرقية، حيث تُستخرج جذوره التي تصل أحياناً إلى نحو عشرة أمتار في الأرض. ولا يحتاج شراب "العرقسوس" إلى إضافة السكر اليه، لأن عروقه تتسم بحلاوة الطعم.

ولا يقتصر تناول شراب العرقسوس على شهر رمضان، بل يعدّ من أبرز المشروبات الصيفية في العاصمة السورية دمشق، كما أنه يوزع على الضيوف في الأعياد والموالد وجلسات الذكر والتسبيح.



إضافة إلى شراب العرقسوس، هناك شراب آخر يحل ضيفاً على موائد الدمشقيين في شهر رمضان وهو شراب "التمر هندي" الذي يُستخرج من التمر بعد نقعه بالماء النقي لساعات عدة، ثم يوضع في كيس مصنوع من الشاش الناعم، ثم يُعصر بشكل جيد، على أن يضاف إليه "السكر وماء الزهر" لتحسين نكهته. ولا يفارق العرقسوس والتمر هندي موائد غالبية الدمشقيين من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة في شهر رمضان، إضافة الى مشروبات أخرى وأطعمة اعتاد الدمشقيون عليها في الشهر الفضيل منذ قرون خلت. وفي رمضان دمشق، يظهر "الناعم"، وهو عبارة عن رقائق من العجين على شكل أرغفة خبز، تقلى بالزيت، وتحلى بدبس العنب، أو التمر، ويحبها الأطفال، وتباع في الأسواق وعلى الطرقات قبيل الإفطار مع نداءات الباعة "رماك الهوى يا ناعم".

وخلال شهر رمضان، يزدهر أيضاً سوق "القطايف الدمشقية"، وهي حلوى شعبية يقبل عليها أصحاب الدخل المحدود، وتُحشى بالجوز أو الفستق الحلبي أو الجبنة أو القشطة.