"الحراقة" الصغار... أطفال مغاربيون تائهون في أوروبا

"الحراقة" الصغار... أطفال مغاربيون تائهون في أوروبا

06 يونيو 2019
رحلة طويلة ومجهولة المصير (باولو مانزو/ Getty)
+ الخط -

يتفق كثيرون في شمال أوروبا على التعاطف مع المهاجرين القاصرين غير المصحوبين بذويهم، لكن هناك اتفاقاً أيضاً على أنّهم يمثلون مشكلة، خصوصاً مع تجاوزاتهم، واختفائهم، ومحاولتهم قطع المحيط الأطلسي.

لم يعد صادماً لمواطني دول شمال أوروبا، خصوصاً اسكندنافيا، وصولاً إلى جزر الفارو وأيسلندا وأبعد من ذلك إلى غرينلاند، سماع أخبار عن أطفال مهاجرين بلا مرافقين، يختفون من مراكز استقبال طالبي لجوء، خصوصاً أولئك الأطفال الآتين من شمال أفريقيا، ويطلق عليهم الإعلام لقب "أطفال الشوارع". يتراوح سنّ هؤلاء بين 8 سنوات و17، ويتجولون بين مختلف الدول الأوروبية، وبعضهم لم يطلب في الأصل اللجوء أو الإقامة، وهو ما يثير حيرة المسؤولين وبعض سكان محيط مراكز الإيواء، إذ يتواجهون مع بعضهم لمنعهم من السرقة.

مئات من الأطفال "الحراقه" (وهو المصطلح المتعارف عليه في المغرب العربي، للدلالة على المهاجرين السريين) لم يحرقوا فقط ما يثبت هوياتهم وتاريخهم السابق والمأساوي بوصف الخبراء، بل يحرقون أثرهم باختفاء فجائي، وأحياناً جماعي، من مراكز يديرها الصليب الأحمر، في الدنمارك ودول أوروبية أخرى. الصادم للسلطات هذه المرة وصول الأمر إلى حدّ محاولة بعضهم قطع المحيط الأطلسي نحو كندا، على متن بواخر عابرة باتجاه غرينلاند، من موانئ أقصى شمال الدنمارك، ظناً منهم أنّها بواخر ستعبر الأطلسي نحو القارة الأميركية، فيلقى القبض عليهم في الجزيرة المتجمدة، غرينلاند، التابعة للدنمارك، وفي أيسلندا وجزر الفارو، ليعادوا إلى الدنمارك. تلك المحاولات الجديدة سبقتها أخرى من موانئ نرويجية في 2016، على متن باخرة ركاب سياحية متجهة إلى غرينلاند، فأعيد منها من حاول الهرب بمعية الشرطة الدنماركية العاملة على الجزيرة إلى قسم الأطفال في مركز ساندهولم وغيره من مراكز الإيواء.

قصص تجول أطفال الحراقة في أوروبا عادت لتطل برأسها مجدداً بعد اختفاء كثيرين منهم من أماكن الإيواء، ليس فقط في جنوب ووسط القارة، بل في الدنمارك والسويد. فاضطرت وزارة الهجرة الدنماركية لتقديم أجوبة لأعضاء البرلمان، على وقع تسجيل الشرطة وقائع وأحداث سرقة منازل وتعاطي مخدرات من قبل هذه المجموعات الهائمة على وجهها "من برشلونة (إسبانيا) جنوباً إلى كوبنهاغن شمالاً"، وفقاً للوصف الرسمي الدنماركي. الصليب الأحمر الدنماركي، وبحسب تصريحاته للصحافة المحلية، يعترف بوجود أطفال "في مركز ساندهولم للصغار" تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و13 حين يصلون إلى البلاد. وفي أجوبة وزارة الهجرة والدمج للجنة شؤون الهجرة في البرلمان الدنماركي عمن يطلق عليهم رسمياً تسمية "أطفال شوارع" تؤكد الوزارة وجود صغار بلا مرافقين بعمر 8 سنوات.

نجا بأعجوبة من البحر (Getty)

وفي 22 إبريل/ نيسان الماضي ذكرت رسالة جوابية من الوزارة إلى أعضاء اللجنة البرلمانية، منشورة على الموقع الرسمي للبرلمان، أنّ عدداً من هؤلاء الصغار "مدمنون على المواد المخدرة، من تعاطي الحشيش إلى شم روائح الصمغ والغاز والبنزين". يؤكد الصليب الأحمر في معلومات إضافية "انتشار العلاج الذاتي من خلال مواد مخدرة". وبحسب ما تنقل صحيفة "بيرلنغسكا" عن المنظمة فإنّ عدداً متزايداً من هؤلاء "يجرى استغلالهم عبر عصابات في عمليات سرقة منازل بالاقتحام، وتوزيع المخدرات، والسرقة في النوادي الليلية وأماكن السهر في كوبنهاغن".

يعترف مدير مركز إسكان القاصرين من دول مغاربية، وأغلبيتهم وفقاً للتقارير الرسمية من المغرب، في منطقة فارسأو، في شمال وسط الدنمارك، توماس تولستروب، بتحديات كثيرة مع هؤلاء القاصرين، بسبب إصرار وتصميم بعضهم خلال السنوات الماضية على الهرب عبر ميناء هيرتزهالس (أقصى شمال غرب البلد) باتجاه كندا، بالاختفاء على متن شاحنات تصعد على البواخر. ويذكر تولستروب أنّ بعض الأطفال الآخرين في المركز تلقوا اتصالاً من جزيرة غرينلاند من فتية آخرين يبدو أنّهم وصلوا إليها تهريباً "وبدأنا بعدها نلحظ زيادة اتصالات شرطة ميناء هيرتزهالس بمركزنا بعدما أوقفت عدداً من صغارنا لاستعادتهم. وبالرغم من استعادتهم، يعاود هؤلاء الصغار المحاولة مراراً، فقد كان لدينا صبيان من المغرب ادعيا أنّهما شقيقان، وانفصلا بعد ذلك ليخبرنا الأطفال الآخرون أنّهما وصلا واتصلا من غرينلاند، ولم نرهما بعد ذلك مطلقاً". تؤكد شركات الشحن العاملة عبر الأطلسي في شمال الدنمارك أنّها في 2016 أوقفت العديد من الأطفال من المغرب وهم يحاولون الهرب على متن الباخرة نحو الشمال.

تضيف الشركات، خصوصاً شركة "سميريل للشحن البحري"، أنّ "بعض الصغار غير مدركين أنّ وجهة بعض بواخرنا النهائية هي أيسلندا، وقد جرى توقيف 5 منهم بعد تمكنهم من الهرب والاختفاء ووصلوا بالفعل إلى دولة أيسلندا وجزر الفارو حيث جرى تسليمهم إلى الشرطة".




في الأول من شهر مايو/ أيار الماضي، اندلع سجال سياسي حول أطفال الحراقة، وذلك على وقع تقارير من شرطة شمالي جزيرة شيلاند (حيث تقع العاصمة كوبنهاغن) عن تزايد القاصرين المتهمين بارتكاب عمليات سطو على المنازل وافتعال متاعب للموظفين والبيئة المحلية. وعبرت وزيرة الهجرة يوم 6 مايو عن "نفاد الصبر". ويسعى يمين الوسط الحاكم للتوافق مع اليمين المتشدد، حزب الشعب، ويسار الوسط، الاجتماعي الديمقراطي، لاتخاذ "خطوات عملية". ويسعى المشرعون لانتهاج سياسة شبيهة بما قامت به السويد من مفاوضات في العام الماضي 2018 مع السلطات المغاربية لاستعادة القاصرين إلى بلادهم وأسرهم. ومنذ ذلك الوقت، في خريف 2018، تسعى وزيرة الهجرة، انغا ستويبرغ، إلى بحث إمكانية "فرض حظر تجوال" على القاصرين نزلاء مراكز الإيواء. وبعد تزايد التقارير عن المتاعب والسرقات يبدو أنّ حزب يسار الوسط، الديمقراطي، بات مستعداً للموافقة على الفكرة، وفقاً لما طرح مقرر شؤون الدمج والهجرة في الحزب، ماتياس تيسفايا.

وفي حين تنتشر أجواء التعاطف مع المهاجرين القاصرين منتشرة بين الدنماركيين، بمن فيهم السياسيون، الذين يعتبر بعضهم أنّ "هؤلاء الأطفال في الأصل ضحايا إهمال رعاية وعاطفة، مثلما هو إهمال أن تتركهم يمارسون مخالفات قانونية"، فإنّهم يشيرون إلى أنّ "في الوقت نفسه لا يمكن إهمال أصحاب المنازل الذين يتعرضون للسرقة واقتحام منازلهم وهم نيام"، وفقاً لتيسفايا. وعبّر أصحاب أحد المنازل التي تعرضت للسرقة، بعد مواجهتهم طفلاً سارقاً تمكنت الشرطة من اعتقاله قبل إتمام عمليته، عن تعاطفهم مع المهاجرين، لكنّهم أضافوا: "ذلك لا يحلّ مشكلة تعرضنا للخوف والرعب من اقتحام منزلنا ليلاً بقصد السرقة".

عمليّة إنقاذ ناجحة (Getty)

السلطات الدنماركية، من جهتها، تقول إن يديها مكبلتان في ما خص إجبار الأطفال على دخول "مراكز شبابية مقفلة". فغياب موافقة الأهل كشرط أولي مع موافقة مسؤولي البلديات، باعتباره هؤلاء القصر أصلاً لا يملكون إقامة، يعيق هذه الخطوة القانونية. وتفيد السلطات الشرطية بأنها أيضاً تقف عاجزة عن مواجهة من هم تحت الخامسة عشرة، وتفيد بأنها تتصرف معهم "مثل تصرفنا مع أي قاصر دنماركي نسلمه لأهله، وفي هذه الحالة نسلمه للصليب الأحمر. أما من هم فوق الخامسة عشرة فيصعب عرضهم أمام قضاة التحقيق، إذ "يجب أن يكون لديك أدلة كافية تثبت تكرار أعمال السطو... وهؤلاء القاصرون ليسوا أغبياء بل يدركون ما يفعلون"، بحسب ما تذكر الشرطة الدنماركية.

على الرغم من أنّ مركز الإحصاء الأوروبي "يوروستات" أكد في تقريره العام الماضي أنّ عام 2017 شهد مجيء أكثر من 31 ألف قاصر بلا مرافقين نحو بلدان الاتحاد الأوروبي، واعتراف أوروبي بأنّ نحو 96 ألف قاصر دخلوا إلى بلدانه في 2015، فإنّ حيرة تعتري معدي التقارير والسياسيين في عدد من دول الشمال حول تمكن صغار السن، خصوصاً هؤلاء الذين لا يتجاوزون 10 سنوات من الوصول من شمال أفريقيا إلى دولهم. وما يزيد حيرة الدنماركيين وغيرهم اختفاء من قاموا بتسجيلهم على أراضيهم من الفتية الصغار. فالسلطات الدنماركية تفيد باختفاء أثر نحو 580 منهم منذ أعوام قليلة، من دون يقين حول وجهة هؤلاء، خصوصاً أنّ بعض الأطفال يحضرون ولا يدخلون في الأرقام الرسمية، بل يعيشون مشردين في الشوارع، وفقط حين يجرى توقيفهم يسلمون إلى الصليب الأحمر الذي يوزعهم على مراكز إيواء القاصرين. وتخمن السلطات أنّ بعضهم غادر إلى دول أخرى، وآخرين يعيشون في الخفاء في بلدان أوروبية في ظروف صعبة وغير إنسانية. وقد تعرض قبل نحو عامين أحد معسكرات القاصرين إلى فضيحة استغلال جنسي من مديرة مركز لبعض الفتية، وجرى إغلاقه في جنوب الدنمارك وتوزيعهم على معسكرات أخرى.




وبحسب توماس تولستروب، وهو مدير مركز دنماركي لإيواء القاصرين، فإنّ "غالبية هؤلاء يتكونون من صبية عاشوا ظروفاً قاسية في صغرهم ضمن مجتمعهم الأصلي في شمال أفريقيا. وتورط أغلبهم في سن مبكرة، قد يصل إلى 3 و5 سنوات، في الإدمان على المخدرات، وارتكاب مخالفات قانونية، وبطريقة ما يغادر هؤلاء نحو أوروبا عبر مجموعات، وأحياناً يندسون بين الكبار. لكنّ اللافت، كما يضيف، أنّ "القاصرين المغاربة يعرفون بعضهم البعض، من إسبانيا حتى برلين والدنمارك، وهم يبقون على تواصل باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي".