أطفال الجزائر... مشهد مغاير في الحراك الشعبي

أطفال الجزائر... مشهد مغاير في الحراك الشعبي

07 يونيو 2019
لا تخشيان الشارع (سعيد معزة)
+ الخط -

فرض أطفال الجزائر أنفسهم في الحراك الشعبي من خلال مشاركتهم في مسيرات وإطلاقهم مبادرات والتزامهم بالسلمية ومساهماتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ويُطرح السؤال حول خلفية هذا الحضور في بيئة لا تفتح مجال التعبير أمام الأطفال.

في المصطلحات الجزائرية الشعبية، ثمّة أكثر من مرادف لكلمة طفل، من قبيل "البزّ" في جنوب البلاد و"الغريان" في غربها و"الذرّي" في شرقها. لكنّها كلّها تحيل إلى الجانب السلبي للطفولة، لجهة ارتباطها بالسذاجة وقلّة الحيلة وانعدام روح المسؤولية، فالكبار يعيّرون سواهم من البالغين بإحدى تلك المصطلحات للدلالة على عدم نضجهم. وقلّما نجد في الموروث الشعبي محكيّة تثمّن الأطفال وإنجازاتهم، إنّما هؤلاء يتعرّضون في الواقع إلى استخفاف من قبل البالغين، من شأنه تثبيط عزيمتهم وإذكاء روح الانسحاب لديهم. فيُقال له مثلاً "بلّع فمك" أي أغلق فمك (اسكت)، و"نت تفهم بزّاف" أي أنت تفهم كثيراً وفي ذلك تهكّم على الطفل واتّهام بتدخّله في ما لا يعنيه.

وإذا تمعنّا في تفاصيل معاملة الأسرة الجزائريّة لأولادها، فسوف نرصد جملة من "الأفعال التعسفية" التي تصبّ في اتجاه القضاء على ذكاء الطفل وميوله ورغباته وخصوصيته. ومثال على ذلك إجبارهم على مشاركة الأسرة أطباقها، حتى وإن كانت تتضمّن توابل حارّة، لأنّ الكبار يحبّونها، عوضاً عن تخصيص نظام غذائي لهم. كذلك فإنّ البالغين يحتكرون التلفزيون ويفرضون برامجهم على الصغار، على الرغم من حاجة هؤلاء إلى قنوات خاصة بهم.

المستقبل لها (سعيد معزة)

يقول الناشط في مجال الطفولة، زين الدين قوجيل، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المجتمع القبلي والأبوي يتعامل مع أطفاله بمنطق الوصاية، أي كن مثل أبيك وجدّك حتّى تكون جديراً بالانتماء إلى السلالة". وهو المنطق الذي يفرض، بحسب قوجيل، "سلوكاً متناقضاً يقضي بأن يُطلب من الطفل التصرّف كبالغ في مواقف معيّنة، الأمر الذي يلغي طفولته، وكذلك ألا ينسى أنّه صغير في مواقف أخرى، فلا يتدخّل في القضايا الكبرى التي لا تعنيه، وهو ما يقضي على روح المبادرة لديه". يضيف قوجيل: "أنا ناشط في مجال مسرح الطفل، وقد لاحظت أنّنا عندما ننظّم عروضاً خاصة بالأطفال لا يكتفي الأولياء بمرافقتهم إلى قاعة العرض فحسب، بل يدخلون معهم ويتحكّمون في حركتهم وطريقة تفاعلهم، وثمّة من ينهر ولده في حال صفّق أو ضحك". ويؤكد أنّ "هذا نمط تربويّ خاطئ من شأنه صنع جيل مكبوت ومتردد أو جيل متمرّد يتطلّع إلى التحرّر".

مع انطلاق الحراك الشعبي والسلمي في 22 فبراير/ شباط الماضي، راحت تنتشر صور وتسجيلات فيديو لأطفال جزائريّين شاركوا في مسيرات عرفتها المحافظات الثماني والأربعين، الأمر الذي أكّد سلميّة الحراك وأضفى عليه لمسة خاصة. وهؤلاء الأطفال أتوا من الفئات العمرية المختلفة ومن الذكور والإناث ومن البلدات الصغيرة والمدن الكبيرة، وكذلك من الأصحّاء ومن ذوي الإعاقة.




واللافت أنّ الأطفال الجزائريّين لم يحضروا في الحراك بصفتهم ديكوراً، بل كانوا فاعلين فيه، الأمر الذي ساهم في خلق موازين قوى جديدة لمصلحة المسعى الشعبي. يُذكر أنّ هؤلاء خرجوا في الأسبوع الثاني من مارس/ آذار الماضي في مسيرات خاصة بهم، تماماً مثلما فعلت شرائح أخرى من طلاب جامعيين وأطبّاء ومحامين وعمّال بلديّات وغيرهم. قيل حينها إنّ ثمّة تعليمات خفيّة من وزارة التربية إلى مدراء المؤسسات التربوية طالبت بتوفير الظروف لخروج التلاميذ إلى الشارع والتساهل مع الأمر حتى تعمّ الفوضى ويتمّ تمييع الحراك وشيطنته، فتستغلّ السلطة الوضع وتفرض حالة طوارئ. لكنّ ما حدث هو تميّز مسيرات الأطفال بالتنظيم المحكم، فلم يُسجَّل أيّ تجاوز أو اعتداء على الممتلكات العامة ولا الخاصة، فيما رُفِعَت الشعارات نفسها التي حملها سواهم من متظاهرين من قبيل "الجيش والشعب خاوة" و"كليتو البلاد يا السراقين".

في المقابل، ندّدت أصوات عدّة بخروج الأطفال إلى الشارع ودعت الآباء والأمهات والمدرّسين إلى التدخل وإعادتهم إلى البيوت وصفوف الدراسة، خوفاً عليهم ومنهم. لكنّ هؤلاء الصغار أصرّوا على الخروج وصناعة مشاهد مختلفة منحت للحراك عمقاً ونكهة مختلفَين ومثيرَين للدهشة. هم لم تمنعهم سنّهم من الخروج إلى الشارع على الرغم من الضغط والتحذير والتخويف، فبيّنوا أنّ إرادتهم قوية صلبة. كذلك لم تمنعهم من إدراك أنّ السلمية مطلوبة لحماية الحراك، فكانوا سلميين وهادئين، كاشفين بالتالي قدرتهم على التأقلم.

"ارحلوا قبل أن أعرفكم" (عبد الرزاق حجاج)

ويؤكد الناشط في مجال الطفولة والباحث في علم النفس الخاص بمسرح الطفل، عيسى حديد، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الطّفل الجزائريّ لم يكتفِ بمسايرة الكبار في داخل الحراك فحسب، بل ظهر نجوم من بين الأطفال المشاركين وقد انتشرت صورهم وتسجيلات فيديو خاصة بهم بطريقة ساهمت في تأجيج الحماسة الشعبية". وفي شرحه هذه الروح المبادرة لدى الطفل الجزائري على الرغم من البيئة الاجتماعيّة القامعة له، يقول حديد إنّ "هذا الجيل الذي يمثّل ما نسبته 40 في المائة من مجموع عدد السكان المقدّر بأربعين مليوناً، نشأ وسط معطيات لم تحظ بالدراسة والانتباه الكافيَين، الأمر الذي جعله يكبر وينضج قبل أوانه". ويتحدّث حديد الذي أخرج أكثر من عشر مسرحيات للأطفال عن معطيات في السياق، "منها أنّ جيل أطفال اليوم فتح عينَيه وسط التكنولوجيات الجديدة وليس في خارجها مثلما هي الحال بالنسبة إلى الأجيال التي سبقته. كذلك هو جيل لم يلطّخ وعيه بالمقولات السياسية المقولبة". ويتابع أنّ "ثمّة ظاهرة اجتماعية لا يتنبّه إليها أحد وهي أنّ طفل اليوم يصاحب أخاه الأكبر لا أباه، الأمر الذي يجعل نقل الوعي والخبرة بالواقع أسرع إليه".

في يوم الجمعة العاشر من الحراك، رصدت "العربي الجديد" مجموعة من الأطفال تراوح أعمارهم ما بين السابعة والخامسة عشرة، في مدينة برج بوعريريج، على بعد 200 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة. هؤلاء كانوا ملتحفين بالعلم الوطني، وراحوا يوزّعون قوارير المياه على المتظاهرين ويحاولون إعادة الحماسة إلى الأجواء كلّما لاحظوا خفوت الأصوات. يقول أصيل (15 عاماً)، إنّ "والدي شرطي وهو لا يتظاهر. من جهتي لا أتبنّى موقفه، وأخرج كلّ يوم جمعة مع أصدقائي لنطالب برحيل من أغرق البلاد في الفساد". يضيف: "يقولون إنّهم حرّروا البلاد من الاحتلال الفرنسي، فلماذا لا يوفّرون للطفل الجزائري الحقوق نفسها التي يتمتّع بها الطفل الفرنسي؟". ويختم: "نريد مستقبلاً أفضل".




في السياق، يرى ناشطون وفاعلون في الشأن العام أنّ قوى الحراك الشعبي سوف تقترف غلطة كبيرة في خلال ترتيبها الواقع الجديد إذا أقصت الأطفال من المجالس والمنابر والمبادرات واللقاءات والبرامج التي سوف تناقش أساسيات هذا الواقع/ التحوّل، موضحين أنّ البلاد بالتالي سوف ترى نفسها بعد أعوام قليلة أمام حراك لأبناء هذا الجيل.