حكايات الموصل... عراقيون يبحثون عن الحياة

حكايات الموصل... عراقيون يبحثون عن الحياة على طرقات النزوح

19 مايو 2017
ينزحون أفواجاً (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -


كثيرة هي الصور التي وثّقها مراسلو وكالات الإعلام في العراق، والتي تظهر أهالي الموصل وهم ينزحون من مدينتهم المشتعلة. لكلّ واحدة من تلك الصور قصّة يختلف "أبطالها". لكنّهم جميعاً عراقيّون خلّفوا كلّ ما يملكون وراءهم في الديار ورحلوا.

وسط الموت المخيّم على مدينة الموصل، يحاول عراقيون كثر البقاء على قيد الحياة، لا بل هم في بحث عن الحياة. ويبحثون إمّا داخل المدينة التي تطبق عليهم وإمّا خارجها وقد نجحوا في النزوح عنها. حكايات كثيرة يرويها هؤلاء، هذه بعضها تنقلها "العربي الجديد" عنهم.

واجهنا الموت

أبو صالح مهندس يعمل في بلدية الموصل، يخبر: "عند منتصف الليل، بدأت رحلتنا. خرجت مع مجموعة من أهالي المنطقة تصل إلى نحو 150 شخصاً، وقد استغلينا تراجع عناصر (تنظيم) داعش. في تلك الليلة، واجهنا الموت المحقق مرّتَين. الأولى لمّا استهدفنا عناصر من داعش برشقات نارية، وسقط ستة منّا على الفور. كنّا في طريقنا إلى حيّ موصل الجديدة الذي تسيطر عليه قوات المكافحة، ونسير في العتمة". يضيف: "رسمنا خارطة للطريق الذي سوف نسلكه على ورقة صغيرة، اطلع عليها سبعة أشخاص. وبعد نحو ساعة ونصف الساعة من المشي الأعمى، سمعنا صوت أحد الجنود يدعونا إلى التوقف ورفع قمصاننا. لكنّ جنود المكافحة سرعان ما عرفوا أنّنا عوائل، وبعد ساعتَين من التفتيش الدقيق سمحوا لنا بدخول أحد البيوت المهجورة، طالبين منّا الانتظار حتى الصباح لينقلونا إلى منطقة دورة بغداد التي تسمى دورة المكعبات. وهناك، تأكدوا من هوياتنا وخيّرونا ما بين النزوح إلى المخيمات وبين التوجّه إلى الجانب الأيسر من الموصل. فاخترنا أقاربنا في الأيسر، لنبدأ بالتالي رحلة أخرى من دورة بغداد إلى القيارة ثمّ الحمدانية وبعدها برطلة فالموصل بجانبها الأيسر". ويكمل أبو صالح: "استغرق طريقنا إلى أيسر الموصل اثنتَي عشرة ساعة كاملة. ولمّا وصلنا، علمنا ممّن تبقى من أهالي منطقتنا أنّ عناصر داعش حرقوا عدداً كبيراً من البيوت من بينها بيوتنا، عندما عادوا فجراً واكتشفوا أنّنا هربنا".




رحلة مع المهرّبين

أم أحمد من سكّان الجانب الأيمن، تروي قصّة هروبها إلى سورية ثمّ إلى تركيا بواسطة مهرّبين. تقول: "خرجنا من الموصل في شاحنة عند الساعة الثالثة والنصف من بعد منتصف الليل. كنّا 25 شخصاً ومعنا أطفال. استمرّت الرحلة حتى الساعة الحادية عشرة من قبل الظهر. نزلنا في منطقة صحراوية وأخذنا قسطاً من الراحة في الخيم المنصوبة هناك، قبل أن ننتقل إلى شاحنة أخرى مكشوفة هذه المرّة. بعد المغرب، وصلنا إلى منطقة الدشيشة التي يسكنها أناس بسطاء. قصدنا أحد البيوت، فطلبوا بعض المال لتأمين العشاء. خلال تلك الرحلة، كدنا نموت من الخوف. وعند الساعة الرابعة فجراً، جاءت شاحنة لتقلنا إلى مكان آخر. حملنا معنا بطانيات، لكنّها اختفت. وراحت الشاحنة تسير بنا لخمس ساعات حتى وصلنا إلى منطقة الحمرات عند أطراف الرقة". تتابع: "تركونا في بيت يقيم فيه أكثر من 100 شخص. بقينا هناك 10 أيام نأكل مرّة واحدة في اليوم. بعد ذلك، نقلونا إلى بيت داخل الرقة. منه، انطلقنا إلى مدينة الباب في شاحنة تشبه تلك التي نقلتنا من الموصل. لكنّنا هذه المرّة لم نكن 25 شخصاً بل 75. وسارت بنا الشاحنة من التاسعة ليلاً حتى الرابعة فجراً، عندما تعطّلت. كانت المنطقة صحراوية لا يوجد فيها أيّ بشريّ. لكنّ الشباب قالوا إنّ ثمّة ملامح قرية في البعيد. فقررنا التوجّه إليها على الأقدام قبل أن نهلك في ذلك المكان".

وتكمل أم أحمد سردها: "اضطررنا إلى السير نحو ساعتَين. لكنّ أهل القرية طلبوا منّا الرحيل، إذ يخافون من إيوائنا. كان الطقس شديد الحرارة، لكنّنا بدأنا بالعودة. صادفتنا مركبة قال لنا سائقها: لا أعرفكم لكنّني أشفقت عليكم وسوف آخذكم إلى الرقة. أوصلنا إلى منطقة لا أتذكّر اسمها، فنزلنا في خيم. لم يسمح لنا أصحابها بالخروج وأحضروا لنا الخبز والطماطم. قالوا: هذا غدائكم. كلوا بسرعة، سوف تأتي مركبة لتأخذكم قريباً. بالفعل وصلت مركبة محمّلة بالتبن وبقيت تسير بنا نحو أربع ساعات أو أكثر. وصلنا إلى منطقة الباب. لم يبقَ منّا حينها إلا 50 شخصاً. قيل لنا: من لا يطيق المشي فليعطنا 100 دولار. بقي منّا ثلاثة أشخاص. كان المهرّبون في كلّ مكان. واستمرّينا على هذه الحال حتى وصلنا إلى الرقة. بعدها، عدنا إلى الموصل لنتوجّه من جديد إلى مخيمات تركيا. واليوم نحن في الجانب الأيسر من الموصل بعدما هدموا منازلنا في الجانب الأيمن".



الظلام رفيق الموصليين

خالد الموصلي من هؤلاء الذين نزحوا عن المدينة. يروي: "اتفقنا على الخروج ليلاً في الساعة الحادية عشرة وكنّا 15 عائلة. حدّدنا منطقة الانطلاق: راس الجادة في شارع نينوى. هناك، كانت المسافة التي تفصل ما بين الجيش في مساكن محطة القطار وداعش كان في راس الجادة، دون الكيلومترَين. انطلقنا وسط الظلام المخيّم على المنطقة، لكنّ ثمّة براميل بلاستيكية أضاءت لنا الطريق إذ كانت تحترق. لكنّ ذلك كشفنا أمام عناصر داعش الذين فتحوا النار علينا. كان الطريق وعراً جداً بسبب القصف الذي استهدفه، وكانت ثمّة حفرة عميقة سقط كثيرون منّا فيها. قتل على الأثر ثلاثة رجال وأربع نساء وأطفال. قنّاص داعش راح يتصيّدنا، لكنّ قسماً منّا نجا واجتزنا خلال ساعة ونصف الساعة منطقة لا تتطلب أكثر من خمس دقائق من السير على الأقدام، تحت وابل من الرصاص".

يتابع الموصلي ودموعه تنهمر: "سقطت زوجتي أرضاً وتأذّت ساقها. كذلك سقط ابني وحفيدي الذي يبلغ من العمر شهرَين. لكنّني حرصت على جمعهم حولي ليتسنى لنا الهروب جميعاً. وقطعنا 500 متر في نحو ساعتين من الوقت. بعض الذين كانوا معنا، فقدوا أفراداً من عائلاتهم لتنجو فقط خمس عائلات. وصلنا إلى مساكن محطة القطار التي يسيطر عليها الجيش، وسط طلقات تحذيرية. صرخنا: نحن عوائل، فاستقبلونا وراحوا يتحققون من أوراقنا الثبوتية. بعدها، قدّموا لنا الماء ثمّ نقلونا إلى مطار الموصل وأوصلونا إلى منطقة حمام العليل. وهناك خيّرونا إمّا البقاء في المخيمات أو النزول عند أقارب في الساحل الأيسر. من جهتي، اخترت النزول عند خالتي". ويشير الموصلي إلى أنّه "في اليوم التالي، أمسك داعش اثنين من أفراد العوائل التي كانت ترافقنا وأعدموهما وعلقوهما على عامودَي كهرباء في منطقة راس الجادة. نحن نجونا بأعجوبة وسط الرصاص وجثث الموتى والطريق المزروع بالمتفجرات".