صمم في الموصل بعد "داعش"

صمم في الموصل بعد "داعش"

10 يونيو 2019
من بينهم صغار فقدوا سمعهم ربّما (زيد العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -

أهالي الموصل الذين صمدوا في المدينة أو الذين تهجّروا منها ما زالوا يعانون اليوم، ولعلّ الصمم هو من بين ما يشكو منه مئات من هؤلاء


لا تُختصر مشكلات الموصل، ثاني كبريات المدن العراقية، بتهدّم بنيانها وتهجير أهلها على خلفية سيطرة تنظيم "داعش" عليها ثمّ تحريرها. قد يكون الدمار والنزوح المشهدَين الأكثر بروزاً، غير أنّ العراقيّين فيها يحاولون اليوم التأقلم مع الفقد من جرّاء موت ومع البطالة والفقر والأمراض وكذلك الإعاقة. فالحرب خلّفت إعاقات تختلف أشكالها بين أهل المدينة الواقعة شمالي البلاد، وما زالت حالات كثيرة تنتظر الحصول على طرف صناعي لتعويض قدم أو رجل أو ذراع أو يد، وأخرى تأمل في قوقعة أذن صناعية أو جهاز سمع بديل يعوّضان السمع الذي فُقِد (كلياً أو جزئياً) من جرّاء تفجير أو قذيفة أو صاروخ.

وتُشاهَد طوابير المواطنين أمام المستشفيات التي تعاني كذلك من جرّاء الواقع المرير في المنطقة. مئات منهم ينتظرون أمام مستشفى الموصل العام حجي عبد. فالأخير هو الموظف المسؤول عن إحضار أجهزة السمع الصناعية من بغداد، مع العلم أنّه يغضب كلّما ناداه أحدهم "حجي عبد" ويطلب من الناس التوجّه إليه بـ"أستاذ عبد". محمد هاشم مع ابنه طه من هؤلاء المنتظرين، ويخبر الأب "العربي الجديد" أنّ الموظّف "ذهب إلى العاصمة قبل يومَين ولم يعد حتى الساعة". يضيف: "لو علم بحالنا كان سيعود بسرعة مع الأجهزة"، متهماً إيّاه بأنّه "يستغل الذهاب إلى بغداد من أجل الترويح عن نفسه بعيداً عن أجواء المدينة الخانقة هنا".




في تمام الثانية عشرة ظهراً، يصل حجي عبد إلى المستشفى ويطلب من المنتظرين في الطابور أن يعودوا في الغد، إذ إنّه يشعر بالتعب. ويسجّل أسماءهم في قائمة طويلة، شارحاً لهم أنّ التقني الطبي سوف يسلّمهم أجهزة السمع الجديدة ويشرح لهم طرق استخدامها وكيفية الحفاظ عليها، بعد معاينتهم من قبل الأطباء الاستشاريين. ويشير أحد العاملين في المستشفى، وقد تحفّظ عن ذكر هويته، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "العشرات يحضرون أسبوعياً من أجل الخضوع لفحوصات طبية، ثمّ يُوجَّهون إلينا لتزويدهم بأجهزة السمع المناسبة"، موضحاً أنّ "معظمهم من الأطفال والنساء، وكثيرون يرغبون في جهاز غير ظاهر للغير".

والموصل التي سيطر عليها تنظيم داعش لأكثر من ثلاثة أعوام، تعرّضت كما مناطق أخرى إلى قصف جويّ وبريّ في خلال معارك تحريرها، بالإضافة إلى التفجيرات التي كان ينفّذها التنظيم في داخل الأحياء الآهلة بالسكان. ويفيد في السياق مسؤول عسكري رفيع المستوى، بأنّ "آلاف العوائل لم تستطع الخروج من الموصل قبل انطلاق معارك التحرير ولا في خلالها". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "القوات العراقية طلبت من الأهالي الخروج، غير أنّ التنظيم منعهم من ذلك. وقد اضطرّوا إلى تحمّل تبعات المعركة". ويوضح المسؤول نفسه الذي تحفّظ عن ذكر هويته أنّ "الموصل تلقّت مئات أطنان الصواريخ والقذائف المتفجرة، وكانت الأصوات ترجّ المدينة من كل جانب. ونحن من جهتنا، كنّا نتأثّر بتلك الأصوات على الرغم من المسافات البعيدة".



ولعلّ أبرز أسباب الصمم الكلي وكذلك الجزئي هو تضرّر في طبلة الأذن (تمزّقها) أو في الأعصاب السمعية نتيجة التعرّض لتلوّث ضوضائي أو سماع أصوات مرتفعة وحادة باستمرار أو ضغط قوي من قبيل انفجار قريب. يقول الدكتور أحمد عبد الستار في المستشفى الجمهوري في الموصل، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الأطفال هم الشريحة الأكبر بين المصابين"، مؤكداً أنّ "أجهزة السمع البديلة والقواقع الصناعية هو أفضل ما يمكن منحهم إياه اليوم". ويشرح عبد الستار أنّ "ثمّة مصابين تتطلّب حالاتهم تدخلات جراحية وآخرين يكفيهم علاج أو جهاز خارجي يعتادون على رفقته"، لافتاً إلى أنّ "التفاوت في الأضرار يعود إلى حدّة الصوت (أصوات الانفجارات والقصف) الذي تعرّض له الفرد". لكنّ عبد الستار يوضح أنّ "حالات قليلة فقط استجابت للعلاج هنا، فيما كثر ممّن يملكون المقدرة المالية يتوجّهون إلى الخارج لتلقّي العلاج"، متابعاً أنّ "البسطاء (الفقراء) يقفون في الطوابير والمدينة في حاجة الى مركز متخصص في هذا المجال". ويكمل عبد الستار أنّ "الحالات المستعصية تُحال عادة إلى مستشفيات بغداد لتلقي العلاج"، مطالباً وزارة الصحة والحكومة والمعنيين جميعاً بـ"تقديم الدعم إلى مستشفى الجمهوري وتزويده بالقواقع الإلكترونية وتوفير العلاجات كذلك للمصابين بنزيف داخلي بسبب أصوات التفجيرات والقصف".

في السياق، يقول المسؤول في مديرية تربية الموصل، عبد الله اللهيبي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مدارس الموصل استقبلت مئات الأطفال من الذين فقدوا حاسة السمع، لكنّ هؤلاء لم يتمكّنوا من مواصلة الدراسة"، مشيراً إلى أنّ "المدارس أحالت التلاميذ الى المستشفيات وطلبت منهم تقارير طبية تحدد حالة السمع لديهم". ويؤكّد اللهيبي أنّ "إدارات المدارس تعاطفت مع هؤلاء، واستقبلت في صفوفها الذين كانوا قادرين على السمع ولو بنسبة قليلة جداً"، محذّراً من "أميّة محتملة بين الجيل الجديد في الموصل، بسبب عجز وزارة الصحة عن توفير العلاج اللازم للمصابين بالصمم".




ويشكو أهالي المصابين بالصمم من تجاهل الحكومة لهم وعدم مساعدتهم في الحصول على العلاج. أبو أحمد، على سبيل المثال، أب لطفلَين مصابَين بالصمم، في حين أنّه يعاني وزوجته كذلك من ضرر في الأذن. يقول إنّ "الحكومة لم تقدّم لنا أيّ دعم مادي للعلاج، وقد حصلنا فقط على إجراءات علاجية بسيطة في مستشفى الجمهوري"، موضحاً أنّ "ولدَيّ يحتاجان إلى قواقع صناعية ولا قدرة لي على تحمّل تكاليفها".

المساهمون