رائحة الدماء ما زالت تخنق الميدان

رائحة الدماء ما زالت تخنق الميدان

14 اغسطس 2015
غضب وحزن... (الأناضول)
+ الخط -

لم تكن مريم عبد الله تعلم في يوم، بأن المرور من هذه الناحية سوف يتحوّل في كلّ مرّة اختباراً صعباً أليماً. لم تكن تعلم بأنها في كل مرّة تمرّ بالقرب من ميدان رابعة العدويّة، سوف تضطر إلى حبس دموعها والسيطرة على انفعالاتها، في حين تستعيد ذكريات قاسية وأحزاناً خانقة وأحلاماً متكسّرة. تقول "أشعر بدموعي تُغرق عينَيّ، وأحاول منعها. لكن، ما إن تتركّز عند طرفَي جفوني، حتى تدفع بعضها بعضاً، معبّرة عن ذلك الحزن وذلك الغضب الشديدين. غضب وحزن على دماء سالت هنا، ولم تجفّ بعد".

تحلّ الذكرى الثانية لمذبحتَي ميدان رابعة العدويّة (القاهرة) وميدان النهضة (الجيزة) في 14 أغسطس/ آب 2013، لتنكأ جراحاً لم تندمل بعد. تحلّ الذكرى لتسترجع شريط الذكريات القاتمة، وتعيد إلى الأذهان ماضياً قريباً يعصى نسيانه وكذلك تصديقه. هي ذكريات قاتمة تهاجم الروح والقلب بعنف، وكأنها تأبى ألا تمرّ من دون فتح جراح جديدة.

وكانت مذبحتا رابعة العدويّة والنهضة قد وقعتا في أثناء فضّ اعتصام مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي في الميدانَين، على يد قوات الأمن المصرية بمشاركة الجيش. وقد أسفرت عملية الفضّ عن مقتل ما يقرب من ألفَي مصري بطلقات نارية مباشرة، وعن جرح أكثر من خمسة آلاف آخرين بتلك الطلقات، في حين عُثر على خمسين جثّة متفحّمة. إلى ذلك، فُقِد نحو 300 شخص واعتقل 790 آخرون، بحسب ما تفيد تقارير حقوقية دولية.

في المقابل، أعلنت لجنة تقصي الحقائق المصرية التي شكلها المجلس القومي لحقوق الإنسان المصري، في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، أن عدد ضحايا فضّ اعتصام رابعة هو ثمانية قتلى و156 جريحاً من بين عناصر الشرطة، بالإضافة إلى 607 قتلى من المدنيّين، بعضهم من المواطنين الذين لم يكونوا بين المتجمّعين في الميدان والذين قُتِلوا برصاص مسلحّي التجمّع.

وحتى كتابة هذه السطور، لم تكن النيابة العامة المصرية قد حرّكت ساكناً بعد في ما يتعلّق بتقرير لجنة تقصّي الحقائق، من أجل محاسبة من تسبّب في مقتل 607 مصريين في خلال الاشتباكات مع قوات الأمن، بحسب ما جاء في التقرير. وذلك، بالرغم من أن النيابة العامة المصرية حرّكت قضايا عديدة ضد رموز النظام المصري المعزول وقيادات جماعة الإخوان المسلمين، وبالرغم من إصدار القضاء المصري أحكام إعدام متتالية بحقّ هؤلاء.

مريم، لم تشارك في الاعتصام رسمياً، لكنها كانت تتردد دائماً عليه. هي كانت تحرص على مشاهدة ما يدور من حولها بأم العين، إذ لم تكن تثق في المعلومات التي يبثها الإعلام المصري ولا الأجنبي. كذلك، كانت لها من بين المعتصمين، صديقات يشاركن في الاحتجاج. وهي كانت تمضي بصحبتهن وقتاً طويلاً.

تقول الشابة: "اليوم، يختلف المشهد كثيراً عما كان قبل عامَين. الطلاء الأبيض الذي صبغ مستشفى رابعة العدوية ومسجده والمباني المحيطة بهما، جعل كل شيء يبدو متشابهاً. لا فرق ما بين مسجد ومستشفى وبناية، كأن الحكومة تصرّ على محو معالم محدّدة". وتلفت هنا إلى القرار الذي أصدرته الحكومة المصريّة في 15 يوليو/ تموز الماضي والقاضي بإطلاق اسم النائب العام المصري هشام بركات الذي اغتيل في 29 يونيو/ حزيران الماضي، على ميدان رابعة العدوية، تخليداً له. كأنها تريد طمس حقيقة أن بركات هو من أصدر قرار تنفيذ عمليتَي فضّ اعتصامَي رابعة العدوية والنهضة.

من جهتها، تسرد خديجة إبراهيم قصّتها. "أقف عند إشارة المرور، فيشرد ذهني. مررت من هنا، جريت من هناك، سقط بالقرب مني شخص لا أعرفه، عند هذا الرصيف. رائحة الدماء كانت تزكم الأنوف، والهلع والرعب كانا يتجليان على الوجوه. أصوات صراخ ونحيب، صيحات تكبير وأخرى تطلب المساعدة والنجدة". تضيف: "لا أفيق وأعود إلى رشدي، إلا على أصوات أبواق السيارات التي تزعق وأنا متسمّرة في مكاني بالرغم من فتح شرطي المرور المجال".

وذكريات الألم والغضب إزاء الدماء التي سالت، لا تعود إلى خديجة فقط عند عبورها ميدان رابعة العدوية. هي ترافقها في مسيرها إلى مسجد الإيمان الذي يبعد عن الميدان مئات الأمتار. "هناك كانت الجثث ملقاة على الأرض، لتغطّي كشوف (قوائم) الموتى جدرانه في اليوم التالي". وتمتد الذكريات إلى "الشوارع الجانبية المحيطة بالميدان، حيث كانت سيارات الموتى تطوف يومياً معلنة عن أسماء الشهداء وأماكن تواجدهم ليتسلمهم ذووهم".

وفي حين أعلنت الحكومة المصرية الحالية عن خطة لتغيير اللافتات في هذه الناحية، واستبدال اسم "ميدان رابعة العدوية" باسم "ميدان الشهيد هشام بركات"، كانت وزارة الأوقاف المصرية قد أعلنت في بيان رسمي عن فتح مسجد رابعة العدوية "قريباً"، من دون أن تكشف عن مدى قرب الموعد. تجدر الإشارة إلى أن مثل هذا الإعلان تكرّر كثيراً في خلال العامين الماضيين.

يقول هنا مصطفى الشناوي إن لفظة "رابعة" قد تكون مقبولة فقط عندما تنادي الميكروباصات "رابعة.. رابعة"، فيتسابق الركاب لحجز أمكنة لهم في وسائل النقل تلك. يضيف: "لكن هؤلاء قد يصابون بالهلع وتتغيّر ملامحهم، في حال سمعوا كلمة "رابعة" في ظروف أخرى. ذكرها محظور". ويردف: "شيزوفرينيا (فصام)". لكن مصطفى يأمل أن يتمكن من الهتاف عالياً باسم "رابعة"، ليشقّ السماء ويبلغ صوته العالم أجمع. هو يأمل أن يفضح "أبشع مذبحة بشرية في تاريخ مصر الحديث. مجزرة حدثت بينما كان بعض الناس في سبات عميق، وآخرون يتراقصون على وقع مشاهد القتل، في حين كانت فئة ثالثة عاجزة عن الإتيان بأي فعل".

اقرأ أيضاً: في مثل هذا اليوم.. وقبله