ألواح آشور بانيبال

ألواح آشور بانيبال

01 اغسطس 2018
ألواح محفوظة في متحف ما (Getty)
+ الخط -


ظلت مكتبة مدينة نينوى عاصمة الآشوريين قروناً تحت التراب امتدت إلى حوالي 3000 سنة لتعاود رؤية الضوء في أواسط القرن التاسع عشر، عندما تناوبت بعثات الأثريين على أعمال الحفر والعثور على الرُقم الطينية العائدة إلى مكتبة آشور بانيبال وغيرها. غالبية البعثات الأثرية بريطانية وهناك أخرى من دول ثانية. وما تم العثور عليه تم نقله إلى المتحف البريطاني وما زال يشغل معظم أقسامه الرئيسية. ومنذ تلك المرحلة المبكرة بدأ العمل دون هوادة على فك الرموز التي كتبت بها تلك الألواح. وكسرة فخار بعد كسرة، وحرف بعد حرف، كانت تنبثق قصة حضارة الإنسان التي ظلت مجهولة بالكامل أو متناثرة معالمها في أحسن الأحوال.

أحدثت قراءة الرُقم، والتي بلغ عددها في حينه حوالي 25 ألف قطعة، ما يشبه الثورة في قراءة تاريخ المنطقة والعالم القديم، باعتبار أن ضفاف دجلة والفرات هي التي شهدت مع حوض النيل ولادة تأسيس الإنسان القديم للقرى واحتراف الزراعة واختراع الدولاب وعلوم الفلك والتنجيم والتعدين والارقام و... لكن الأهم ما كشفته تلك الألواح من عمق حضاري وضع نصوص العهد القديم في موضعها الثانوي كمصدر للتاريخ القديم للعبرانيين وغيرهم. فقد تبين من تلك النصوص أن قصة الخلق وطوفان نوح وغيرها من القصص، والتي ألهبت مشاعر الغرب، موجودة قبل مئات السنين وأكثر من كتابة التوراة، وأن مصدر التوراة في تلك الجوانب هم أهل العراق القدامى الذين أخذ عنهم العبرانيون هذه القصص خلال الأسر البابلي المعروف. كما أطاحت أسطورة جلجامش بالموقع الريادي الذي كانت تحتله إلياذة هوميروس وطروادة وغيرهما، على اعتبار المصدر اليوناني هو المعَلم التأسيسي الأول للثقافة شعراً ومقاطع إبداعية في العالم.

جمع آشور بانيبال في قصر جده سنحاريب ألواح ما ورثه عن جده، وأضاف عليها ما أضاف، وتطلبته ظروف وضرورات الإمبراطورية التي يقود، ثم قرر أن يبتني قصراً جديداً له، فأسس فيه مكتبة ثانية جمع فيها ألواحاً مختلفة عن الأولى، وكان يستخدم القصرين في وقت واحد خلال العام. وخلال أعمال التنقيب أخذت تتكشف كنوز هذا الملك، وهي عملية استغرقت أكثر من 60 عاماً من الحفر والعمل وأكثر من ستة أجيال من الأثريين. والحقيقة إن النصوص لم يعثر عليها في قصر واحد أو غرفة واحدة، بل وُجد معظمها متناثراً ومهشماً، ما يعني أن المكان قد تعرض للتخريب أثناء هجوم تعرضت له نينوى في العام 612 ق. م تقريباً، بعد أن ذوت تلك الحضارة على أيدي خلفاء الملوك المؤسسين العظام. كانت الألواح ملقاة بين الأنقاض وتحت الركام، وخلال سنوات جرى إعادة تركيبها وقراءتها كلمة كلمة وسطراً سطراً. من يقرأ تفاصيل المعاناة في قراءة النصوص على كسر الفخار وكيفية تجميع كل بيت شعر ومقطع من أسطورة جلجامش يدرك مدى الصبر الذي بذل لإعادة هذه الملحمة إلى الحياة بعد تلك الغيبوبة الطويلة التي رزحت خلالها في عالم الصمت.




وما عثر عليه في العراق من مكتبات ومراسلات وألواح طينية تتعدى هذه المكتبة وفي أكثر من لغة ولسان. وجميعها كان يتم تدوينها رسماً أو طبعاً على ألواح طينية وتعريضها للحرارة حتى تقسو وتصبح صالحة للتخزين، لكن رغم ما شهده العراق في العالم القديم من حروب وسقوط عواصم ملوكية لم يكن ذلك نهاية رحلته الحضارية مع المكتبة والرُقم والتماثيل والمنحوتات ومعالم الحضارة ومعاناته ... فدوماً كان التاريخ يخبئ ما هو أقسى له. يحدث هذا مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين من عمر الإنسان المكتوب.

*باحث وأستاذ جامعي

المساهمون