يوم حكموا على الحاجة نزهة

يوم حكموا على الحاجة نزهة

06 سبتمبر 2016
18 حجة لن تنفع (فايز نور الدين/ فرانس برس)
+ الخط -
كانت الحاجّة نزهة في الخامسة والعشرين من عمرها، لديها أربعة أولاد أتبعتهم بسبعة بعد ذلك. في ذلك النهار الصيفي القائظ تشاجرت مع حماتها التي تسكن معها في المنزل نفسه في أحد أزقة بيروت ما قبل الحرب.

عادة ما كانت المرأتان تتشاجران من أجل أسخف الأشياء. وليس في ذلك إشارة إلى تربية الأطفال مثلاً أو احترامهم المفترض لجدتهم، بل مجرد شراء أحدهم من الدكان بفرنك (5 قروش) يفتح الباب أمام شجار لا ينتهي حتى بمجيء ربّ العائلة ليلاً؛ ابن هذه وزوج تلك، ووقوعه حائراً في أمره بينهما. لكنّ مثل هذا الوضع لا يتمادى معه، فالرجل الذي كان في أواخر ثلاثيناته عاملاً كادحاً بالأجرة اليومية على مرفأ بيروت، لا ينشد إلاّ القليل من الراحة الروتينية ليلاً. يتجه فوراً إلى مقعده مبعداً الأطفال عنه، ومنتظراً العشاء الذي لا بدّ من وصوله توّاً، مهما كانت المعارك مشتعلة.

لكنّ شجار ذلك النهار كان غير كلّ مرة. السبب غير مهم، فهو سخيف كعادته. لكنّ النتيجة بقيت زمناً طويلاً حتى بعد رحيل حماة نزهة بسنوات طويلة.

يومها، حلّفتها حماتها بالقرآن مراراً وتكراراً، وعندما سئمت نزهة منها تماماً بعد مناوشات طويلة، أخذت المصحف من يدها بقوة فوقع أرضاً. لمّته نزهة سريعاً، وضعته على رأسها واستغفرت ربّها. لكنّ ذلك لم يشفع لها، فقد أطبقت أبواب السماء والأرض عليها، وإسرافيل كاد ينفخ في صوره. تحوّل الفعل من "نزهة رمت المصحف أرضاً"، إلى "نزهة مزقت المصحف"، وصولاً إلى "الملعونة نزهة داست على المصحف والعياذ بالله".

لم ينفع كلّ دفاعها عن نفسها. ضربها زوجها، وحبسها في المنزل طويلاً. وعندما سمح لها بالخروج حبست نفسها معظم الأيام طوعاً فقد واجهت شتائم ولعنات كثيرة من جيرانها كباراً وصغاراً. إذاعة حماتها كانت قد تفوقت على إذاعات الموجات الطويلة والقصيرة، وأمعنت في أبلستها.

ماتت حماتها بعدها بزمن، وحجّت نزهة إلى بيت الله الحرام ثماني عشرة مرة. وعندما حانت ساعتها ووزّع نعيها، قالت امرأة لأخرى: "ماتت الحاجّة نزهة". ردّت: "من تقصدين، تلك التي داست على القرآن؟".

ليس من حكموا على نزهة أقلية، فالأحكام المسبقة واضحة في أيّ حديث أو علاقة أو مجرد خبر حتى. كثيرون يأخذون موقفاً واحداً عن شخص معين، أكان صحيحاً أم مضخماً أم كاذباً في الأصل، ويطبعونه به طوال العمر، ويساهمون في الترويج له هم أنفسهم، ليصنعوا انطباعات جديدة غير واقعية لدى أشخاص جدد عنه. فإذا برز اسمه فجأة لم يتذكروا إلاّ ذلك الموقف. دفاعه عن نفسه لن ينفع، فهو يجابه منهجاً ضارباً في أعماق بنيتنا الاجتماعية. حتى ثماني عشرة حِجّة لن تنفع.

دلالات

المساهمون