جثامين الشهداء... فلسطينيون يتمنّون احتضان أبنائهم لمرّة أخيرة

جثامين الشهداء... فلسطينيون يتمنّون احتضان أبنائهم لمرّة أخيرة

27 اغسطس 2019
كثر ينتظرون إفراج الاحتلال عن شهدائهم ليدفنوهم (نضال اشتية/الأناضول)
+ الخط -

يحيي الفلسطينيون في السابع والعشرين من أغسطس/آب من كل عام، اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء، وسط مطالبات بالمضيّ قدماً بكل الجهود الآيلة إلى إتاحة المجال أمام العائلات لاحتضان أبنائهم لمرّة أخيرة ووداعهم.

في إبريل / نيسان من عام 2003، استشهدت الفلسطينية هنادي جرادات في عملية نفّذتها في مدينة حيفا، فاحتجز الاحتلال الإسرائيلي جثمانها في واحدة من مقابر الأرقام. وقبل ثلاثة أعوام، أجرت شقيقتها فادية جرادات ووالدتها رحمة فحوصات للحمض النووي، على أمل التمكّن من استعادة جثمان هنادي. لكنّ الاحتلال الذي لا يوفّر طريقة للتلاعب بأهالي الشهداء، يحتفظ بجثمان هنادي بحسب ما تؤكّد عهد جرادات شقيقتها الأخرى، قائلة لـ"العربي الجديد": "ما زلنا ننتظر الإفراج عن رفات شقيقتي المحتجز منذ 16 عاماً، ووالدتي المريضة تتمنّى دفن رفات هنادي".

ويحرم الاحتلال عائلات الشهداء وداع أبنائهم، فيحتفظ بجثامين بعضهم في مقابر الأرقام حيث تتحلّل، فيما يُبقي بعضاً آخر في الثلاجات. والتعرّف إلى شهيد بعد احتجاز جثمانه في ظروف سيئة (في مقابر الأرقام) أمر صعب مع مرور الوقت، لذا يبقى الأمل الوحيد لدى أهله فحص الحمض النووي ومطابقته مع رفات ابنهم. وتقول في السياق منسّقة الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء، سلوى حماد، لـ"العربي الجديد": إن "وفاة والدة الشهيد ووالده وإخوته وأخواته تؤثّر على المطالبة باسترداده، فالأمر يصير مرتبطاً بأشخاص من دائرة أبعد. كذلك فإنّ احتمال التعرّف إلى الجثمان يصير صعباً مع غياب أفراد العائلة الأقرب، لا سيّما الإناث اللواتي يخضعنَ لفحص الحمض النووي عادة".

ويصل عدد جثامين الشهداء الفلسطينيين المحتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي بحسب بيانات الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء إلى 304، منها 253 دُفنت في مقابر الأرقام وقد استشهد أصحابها قبل عام 2015، أمّا البقيّة فموزّعة على الشكل الآتي: 47 جثماناً محتجزاً في ثلاجات الاحتلال وأربعة أخرى دفنت في مقابر الأرقام وتعود إلى عبد الحميد أبو سرور ومحمد الفقيه ومحمد الطرايرة ورامي العورتاني. تجدر الإشارة إلى أنّ آخر الشهداء الذين أودعوا ثلاجات الاحتلال هو الطفل نسيم أبو رومي الذي قتله جنوده عند باب السلسلة، أحد أبواب المسجد الأقصى، في 16 أغسطس/ آب الجاري.

في تلك اللحظة تلقّت والدة نسيم أبو رومي خبر استشهاده (حازم بدر/ فرانس برس)

وبينما تقوم دولة الاحتلال بالمستحيل من أجل قتلاها، فإنّها غير معنيّة بكلّ ما يتعلّق بجثامين الفلسطينيين الذي قتلتهم، لا بل تسيء التعامل مع ملفّ هؤلاء. وتقول حماد إنّ "الاحتفاظ بالجثامين يتمّ في مقابر أرقام تقع في مناطق معرّضة إلى عوامل مختلفة، منها انجراف التربة نتيجة مياه الأمطار وارتفاع حرارة الصيف، علماً أنّ عدداً منها يقع في منطقة غور الأردن وعلى عمق سطحيّ، الأمر الذي يسّهل الانجراف"، لافتة إلى أنّ المسافة بين الجثامين لا تتجاوز 20 سنتمتراً، فيما تُدفَن في أكياس نايلون سوداء في معظم الأحيان". وحماد التي توضح أنّه "لم يسبق للحملة الوطنية أن دخلت مقابر أرقام ولا تتوفّر لديها أيّ معلومات دقيقة حولها، غير أنّها تقدّر عدد تلك المقابر بأربع تقام في معظم الأحيان بمناطق عسكرية مغلقة". وتشير حماد إلى "شهادة وصلت الحملة من أحد سكان قرية الجفتلك في الأغوار بالقرب من أريحا، شرقي الضفة الغربية، أفاد فيها بأنّه اصطدم بألواح معدنية مرقمة في أثناء مروره في المكان". ويختلف تعامل الاحتلال ما بين جثمان يحمل هويّة القدس وآخر يحمل هويّة قطاع غزة أو الأراضي المحتلة عام 1948 أو مناطق الضفة الغربية، فيما يؤدّي مكان استشهادهم أو تنفيذ عملياتهم الاستشهادية دوراً في السياق. من يحمل هوية الضفة الغربية مثلاً يوكَل قرار تسليمه لقوات الاحتلال أو لقائد المنطقة العسكرية المباشر، أمّا من يحمل الهويّة الزرقاء (الأراضي المحتلة عام 1948) فتقرّر الشرطة الإسرائيلية في ملفه. وفي ما يتعلّق بآلية دفن الشهيد، فإنّ قوات الاحتلال تستلم جثمانه في معظم الأحيان وتحوّله إلى الطب العدلي الإسرائيلي (أبو كبير)، ومن هناك إلى مقابر الأرقام (قبل عام 2015) أو إلى الثلاجات (بعد عام 2015).




تدّعي دولة الاحتلال فقدانها عشرات الجثامين المدفونة في مقابر الأرقام، خصوصاً في الفترة الممتدة ما بين نهاية ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته. وتوضح حماد في هذا الإطار أنّ "دولة الاحتلال كانت توكل حينها مهمّة دفن الشهداء لشركة تأمين إسرائيلية خاصة أعلنت إفلاسها في عام 1997، فاختفت مع انهيارها المالي ملفات الشهداء وبياناتهم". تضيف أنّ "النيابة العامة الإسرائيلية صرّحت في عام 2015 بأنّها تملك من جثامين المقابر 119 جثماناً فقط، لكنّها صرّحت في إبريل/ نيسان من عام 2018 بأنّ لديها 127 جثماناً، وذلك في خلال جلسات المحاكمة الخاصة بملف جثامين الشهداء الفلسطينيين في محكمة العدل العليا الإسرائيلية". وتتابع حماد أنّ "الحملة تملك وثائق عن ثلاثة ملفات لجثامين لكنّ الاحتلال يؤكّد أنها فُقدت"، شارحة أنّها تعود إلى "الشهداء أنيس دولة من قلقيلية، وحافظ أبو زنط من نابلس، وثالث من الخليل".

من جهته، يقول حسن دولة شقيق الشهيد أنيس دولة لـ"العربي الجديد": "لقد طالبت بالإفراج عن جثمان أخي في عام 2005، لكنّ دولة الاحتلال أنكرت أنّه كان مسجوناً لديها على الرغم من وقوعه في الأسر في عام 1968 وإعلان استشهاده في 31 أغسطس/ آب من عام 1980 ووصول خبر تشريحه بعد عامَين". يضيف أنّ "ذلك يدفع العائلة إلى التساؤل: أين كان أنيس في خلال عامَين؟ هل كان ميتاً بالفعل؟". في السنوات الأخيرة، تمّ تحرير 121 جثماناً تعود إلى شهداء من مقابر الأرقام، ويوضح عضو الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء سالم خلة لـ"العربي الجديد"، إنّ "91 جثماناً سُلّمت في عام 2012 إلى السلطة الفلسطينية، 18 جثماناً منها من دون أيّ بيانات أو ملفات تعريفية، وتسعة تمكّنت الحملة عبر جهود كبيرة من التعرّف إليها من خلال مطابقة شهادات الأهالي كتاريخ الاستشهاد وتاريخ الميلاد وغيرهما. وثمّة تسعة جثامين أخرى لم يتمّ التعرّف إليها، فدُفنت في مقبرة رام الله إلى حين حصول ذلك". ويرجّح خلة أن "تعود تلك الجثامين التسعة إلى شهداء تقيم عائلاتهم في خارج الوطن أو من جنسيات عربية". يُذكر أنّ الحملة الوطنية اتخذت قراراً في عام 2012 بعدم تسلّم أيّ جثمان بعد ذلك التاريخ إلا عقب فحوصات الحمض النووي. وهذا ما حصل في عام 2013، عند تسليم 28 جثماناً تطابقت حمضها النووي مع حمض نووي عائلات عدّة.

وتبرز في سياق متصل مخاوف من سرقة أعضاء وأنسجة من جثامين الشهداء الفلسطينيين، غير أنّ أيّ جهة فلسطينية لم تستطع إثبات مسألة قيام جهات إسرائيلية بسرقة أعضاء الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال. أمّا المعلومات الوحيدة المتوفّرة فهي أنّ يهودا هس الذي كان مديراً لمعهد أبو كبير الإسرائيلي حتى عام 2010، صرّح قبل سنوات بأنّه كان يشرف بنفسه على سرقة قرنيّات عيون الفلسطينيين وجلودهم لاستخدامها في علاج جرحى الجيش الإسرائيلي. وتوضح حماد هنا أنّ "الجثامين المحتجزة قبل عام 2015 تكون متحللة عند استلامها، الأمر الذي يعرقل إثبات أيّ سرقة فعلياً. لكنّ ثمّة وسائل إعلامية تحدّثت أخيراً عن امتلاك إسرائيل أكبر بنك جلد في العالم، وهو الأمر الذي يثير الشكوك حول قيامها بسرقة أعضاء وأنسجة الشهداء الذين تحتجزهم".

 فرصة وداع شهيد لا تُتاح للجميع (إيلوييز بولاك/ Getty)

تجدر الإشارة إلى أنّ احتمالات تحرير جثامين الشهداء كانت أكبر قبل إصدار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (كابينت) قراره في 13 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015 القاضي بالعودة إلى احتجاز جثامين الشهداء مع انطلاق هبّة القدس، علماً أنّه كان من المقرر الإفراج عن 127 جثماناً في الشهر نفسه. ويشير محامي الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء محمد أبو سنينة إلى أنّ "قرار الكابينت أعاقه، وغالباً قرار تسليم الجثامين هو قرار سياسي".

ويقول أبو سنينة إنّ فترات انعقاد جلسات المحاكم تطيل عمر قضيّة تسليم الجثامين، فالجلسة الأخيرة عقدت في يوليو/ تموز من عام 2018. ولا يستبعد "إجراء مفاوضات في الكواليس بين الحكومة الإسرائيلية والمحكمة العليا الإسرائيلية من أجل إعاقة التسليم". وما يدعم ملف الشهيد من الناحية القانونية لتحريره هو عدم انتمائه أو عائلته إلى حركة "حماس" وعدم تنفيذه عملية نوعية. لكنّه إن كان كذلك، فجثمانه لن يُسلّم في الغالب، مثل حال جثمان أحمد نصر جرار الذي قتل حاخاماً يهودياً ولاحقه الاحتلال حتى قتله في فبراير/ شباط من عام 2018.

قانونياً، لم تقرّ حكومة الاحتلال باحتجاز وفقدان جثامين الشهداء في مقابر الأرقام بوضع مزر، ولم تثبّت محكمة العدل العليا الإسرائيلية قرارها الرافض لاحتجاز جثامين الفلسطينيين الصادر عنها في عام 2017، على الرغم من خلوّ القانون الإسرائيلي من أيّ مادة تجيز احتجاز الجثامين. لكنّ حكومة الاحتلال تتذرّع بأنّ الاحتجاز جزء من حيلة التفاوض مع حركة "حماس" لإطلاق جثامين جنودها المحتجزة لديها. وما ينفي هذه الحجة هو أنّ صفقة "وفاء الأحرار" أو "صفقة شاليط" لم تتضمن مبادلة لجثامين.



قبل سنوات، انطلقت فعاليات "اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء"، وهذا العام أطلقت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء في السياق حملات إلكترونية مع هاتشاغ #بدنا_أولادنا، إلى جانب هاشتاغ لهيب_الثلاجات لأنّ حرارة فقد الأبناء واحتجازهم تفوق برد ثلاجات الاحتلال. يُذكر أنّ الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء تضمّ مؤسسات حقوقية عدّة تعنى بهذا الملف، هي "مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان" و"هيئة شؤون الأسرى والمحررين" و"مؤسسة عدالة" بالإضافة إلى "مركز الدفاع عن الفرد - هموكيد" (مؤسسة إسرائيلية).