الموت في البيت... ضحايا مجهولون لفيروس كورونا في إيطاليا

الموت في البيت... ضحايا مجهولون لفيروس كورونا في إيطاليا

05 ابريل 2020
انهار القطاع الصحي الإيطالي تحت ضغط كورونا (ماتيو سيامبيللي/Getty)
+ الخط -
ظلت سيلفيا برتوليتي تبذل محاولات مستميتة على مدى 11 يوماً لإقناع طبيب بزيارة والدها إليساندرو البالغ من العمر 78 سنة، والذي كان يعاني من الحمى وصعوبة التنفس. وعندما ذهب طبيب بالفعل إلى بيتها بالقرب من برغامو، بؤرة انتشار فيروس كورونا في شمال إيطاليا، مساء 18 مارس/آذار، كان الأوان قد فات.

وأعلنت وفاة إليساندرو برتوليتي بعد 10 دقائق فقط من وصول سيارة إسعاف طلبتها الأسرة قبل ذلك بساعات. وكان الدواء الوحيد الذي وصفه له طبيب عبر الهاتف هو مسكنا عاديا للألم ومضادا حيويا واسع المجال. قالت الابنة (48 سنة): "تركوا والدي يموت وحده في البيت دون مساعدة. تخلوا عنا بكل بساطة. لا أحد يستحق أن تنتهي حياته هكذا".

تشير مقابلات مع أسر وأطباء وممرضات في منطقة لومبارديا المنكوبة في إيطاليا، إلى أن ما مرت به أسرة برتوليتي ليس حالة فردية، وأن العشرات يموتون في البيوت بعد أن تتفاقم الأعراض، وأن الاستشارات الطبية عبر الهاتف ليست كافية دائماً.

وتبين دراسة حديثة لسجلات الوفاة أن عدد الوفيات الحقيقي في منطقة برغامو وحدها جراء انتشار المرض قد يزيد عن مثلي العدد الرسمي البالغ 2060 حالة. إذ يشمل العدد الرسمي للوفيات حالات الوفاة في المستشفيات فقط.

وفي الوقت الذي تتركز فيه الجهود العالمية لإنقاذ الأرواح على زيادة عدد أجهزة التنفس في المستشفيات، يقول أطباء إن نقص إمكانيات الرعاية الصحية الأولية لا يقل فداحة لأن الأطقم الطبية لا يمكنها، بل ولا تريد زيارة المرضى في البيوت مسايرة لتحول متبع على مستوى العالم إلى تقديم المشورة الطبية عن بعد.

طبيب الأسرة

وقال ريكاردو موندا الذي يؤدي مهام طبيبين في بلدتي سيلفينو ونمبرو بالقرب من برغامو بعد أن أصيب طبيب زميل بالفيروس: "ما أدى إلى هذا الوضع هو أن عدداً كبيراً من أطباء الأسرة لم يزوروا مرضاهم لأسابيع. لا أقدر أن ألومهم لأن هذا ما نجاهم من المرض. كان من الممكن تحاشي حدوث وفيات كثيرة لو أن الناس في البيوت تلقوا مساعدة طبية فورية، لكن الأطباء كانوا غارقين في العمل، ويفتقرون للأقنعة والأردية الكافية لحماية أنفسهم من العدوى، وكانوا لا يجدون حافزاً للزيارات المنزلية سوى في حالات الضرورة القصوى".

وتابع موندا: "الأطباء يصفون للناس في البيوت علاجاً. لكن إذا لم ينجح هذا العلاج، وإذا لم يوجد الطبيب الذي يفحص ويغير أو يعدل الأدوية، فسيموت المريض".
وفي حين أصبح للعاملين في المستشفيات الأولوية في الحصول على الأقنعة، يقول بعض أطباء الأسرة إنهم خرجوا في زيارات طبية دون أقنعة، ولذا شعروا أنهم غير قادرين على زيارة المرضى بأمان.



وقالت متحدثة باسم المؤسسة الصحية "إيه.تي.إس" التي تديرها الدولة في برغامو، إن السلطات في إقليم لومبارديا طلبت من أطباء الأسرة "التعامل مع المرضى عبر الهاتف بقدر الإمكان"، مما حد من الزيارات المنزلية "لتقليل العدوى، والإهدار في استخدام أجهزة الحماية. 142 طبيباً في برغامو أصيبوا بالمرض، أو يقضون فترة في الحجر الصحي، وكان من الضروري إبدالهم".

وتعمل السلطات الآن على تعزيز الرعاية الأولية تطبيقاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية التي تقول إن تحقيق الرعاية الصحية الأولية بطريقة آمنة يلي توفير قدرات الرعاية المركزة في ترتيب أولويات الحكومات.

وفي برغامو، بدأت ست وحدات خاصة من الأطباء العمل في 19 مارس/آذار، وكان كل منها مجهزا بالوسائل اللازمة لزيارة المرضى في البيوت. وفي ميلانو القريبة، حيث تجاوز عدد الوفيات في البيوت ومراكز رعاية المسنين المثلين في النصف الثاني من مارس، لم تبدأ وحدات مماثلة العمل سوى في 31 مارس.

وفيات خفية

وصل عدد الوفيات الرسمي في إيطاليا إلى 15362 وفاة يوم السبت، أي ما يقارب ثلث الإجمالي العالمي، لكن ثمة أدلة متنامية على أن هذا العدد لا يمت بصلة للإجمالي الحقيقي، وذلك لأن كثيرين يموتون في البيوت.

وتقدر دراسة أجرتها صحيفة "ليكو دي برغامو" المحلية، وشركة "إنتويج" الاستشارية للأبحاث، باستخدام بيانات من المجالس البلدية المحلية، أن "5400 شخص توفوا في منطقة برغامو خلال شهر مارس، أي ستة أمثال عدد المتوفين في الشهر نفسه من العام الماضي".

وتفترض الدراسة أن عدداً يصل إلى "4500 من هؤلاء توفوا بسبب كورونا، أي أكثر من مثلي العدد الرسمي". وأوضحت الدراسة أنها تأخذ في الاعتبار وفاة 600 شخص في دور الرعاية.



وقال بيترو زوتشيلي، مدير شركة زوتشيلي للجنازات، التي تقدم خدماتها في عدة قرى بوادي سيريانا حول برغامو، إن أكثر من 50 في المائة من نشاطه في الأسبوعين الأخيرين تمثل في نقل الجثث من البيوت، وقبل ذلك كان معظم نشاطه يتركز في المستشفيات ودور الرعاية.

وقال الطبيب موندا إنه تردد على مرضى في البيوت منذ أواخر فبراير/شباط، ووصف لهم مضادات حيوية لحالات الالتهاب الرئوي، وعلاجاً بالأكسجين إذا تطلب الأمر. وأضاف أنه رغم أن المضادات الحيوية ليست علاجاً للفيروس، فبإمكانها معالجة بعض المضاعفات الصعبة، ومساعدة المرضى على التحسن دون الحاجة لدخول المستشفى.
وحماية لنفسه اشترى أقنعة وجه قيمتها 600 يورو، وهو يتولى تعقيمها في بيته باستخدام البخار مساء كل يوم.

اصبري

تكشف المحنة التي عاشتها أسرة برتوليتي أن الرعاية الأولية، التي تعد خط الدفاع الأول في نظام الرعاية الصحية، انهارت أمام انتشار فيروس كورونا. وتقول برتوليتي التي كان الطبيب الذي يعالج أسرتها في المستشفى، إنها اتصلت هاتفياً أكثر من مرة بالطبيب الذي يعمل بدلاً منه، وإنه قال لها في البداية أن تعطي والدها مسكناً للألم أساسه مادة الباراسيتامول المستخدم في خفض درجة الحرارة. ومع تدهور حالة والدها عاودت الاتصال بالطبيب، فقال: "لست مجبراً على القيام بزيارات منزلية. اصبري".

وقال الطبيب إنه يتلقى ما بين 300 و500 مكالمة هاتفية يومياً، ويؤدي أيضاً عمل زميل مريض. "كنت أضطر للاختيار. ولم أستطع زيارة من يعانون من السعال والحمى. كنت أستطيع فقط الخروج لفحص أخطر الحالات".
وتقدر رابطة أطباء الأسرة في برغامو أن 70 ألف شخص في المنطقة أصيبوا بالعدوى. وقال جورجيو جوري، رئيس بلدية برغامو: "رغم بذل أقصى جهودنا، فليس من الممكن نقل الجميع إلى المستشفى، وأحياناً تفضل الأسر إبقاء المريض في البيت خوفاً من ألا تتاح لهم فرصة أخرى لوداعه".

وكتبت جوفانا جارجوني، رئيسة بلدية بورغيتو لوديغيانو، رسالة في 27 مارس، إلى السلطات الصحية في المنطقة نيابة عن مجموعة من رؤساء البلديات، قالت فيها: "لدينا مواطنون مرضى في البيوت يشعرون بأنهم تعرضوا للتخلي عنهم، وأستطيع أن أعطيكم مئات الأمثلة".

وحتى في ميلانو المدينة الرئيسية في لومبارديا والعاصمة المالية لإيطاليا، يقول أطباء إن تعهدات السلطات المحلية بتقديم وسائل الحماية مثل أقنعة الوجه وتوفير الاختبارات لأفراد الأطقم الطبية لم تتحقق بالنسبة للبعض.

ويقول مسعفون إن سيارات الإسعاف التي كانت في العادة تصل في غضون دقائق من طلب الخدمة بالهاتف، تستغرق الآن ساعات. وبلغت عبوات الأكسجين من الندرة حداً يدفع الممرضات إلى طلب استردادها من الأسر المكلومة بمجرد وفاة المريض.

(رويترز)