نزيف أدمغة المغرب

نزيف أدمغة المغرب

03 يوليو 2018
هل يبقون في البلاد؟ (فرانس برس)
+ الخط -


لا يختلف المغرب عن غيره من البلدان العربية التي يهجرها كثيرون من أبنائها بعدما عجزت عن احتوائهم. وهؤلاء الذين يصحّ وصفهم بالمتفوّقين، سلّموا بأنّه لا بدّ من الاغتراب.


يفتخر المغرب بتألق كفاءات وطاقات كثيرة من أبنائه في خارج البلاد وفي أكثر من مجال، فكر وبحث علمي وسياسة ورياضة واختراعات وفنون وعمل اجتماعي. لكنّ تصدير الكفاءات ليس إلا نزيفاً وهجرة للأدمغة.

ويُسلّط الضوء في عدد من البلدان الأوروبية والأميركية والآسيوية، على أسماء مهاجرين مغاربة تركوا بلادهم وقصدوا أخرى ليصنعوا فيها مسارات مهنية ناجحة ولافتة للأنظار. وهو ما دفع بالمجتمعات الغربية إلى الاعتناء بتلك الكوادر مهنياً ومادياً واجتماعياً. هكذا وجد المغرب نفسه محروماً من عدد من أدمغته التي أبصرت النور على أرضه قبل أن تختار الهجرة إلى فضاءات أكثر رحابة.

من تلك الأدمغة التي هاجرت لتتفوق وتبهر في مجالها، كمال الودغيري مهندس الاتصالات وعالم الفضاء في الإدارة الوطنية (الأميركية) للملاحة الجوية والفضاء أو "ناسا". هو شارك في تنفيذ مهمّة نزول مركبة فضائية على سطح المريخ، غير أنّه لم ينسَ بلاده التي شهدت ولادته واحتضنته من خلال مساهمته في دورات تدريبية لطلاب مغاربة وتعريفهم بعلوم الفضاء، بإشراف من "ناسا". بدورها، استطاعت أسماء بوجيبار أن تبرع في إدارة "ناسا"، هي المتحدّرة من جبال الريف المغربية، وذلك بفضل تخصصها العلمي الدقيق في التوازن الكيميائي بين غلاف الكواكب ونواتها خلال تشكلها. وبوجيبار هي المرأة العربية والأفريقية الأولى التي تنضمّ إلى "ناسا".



من جهته، يُعَدّ رشدي اليزمي "دماغاً مغربياً" آخر أبصر النور في مدينة فاس حيث تابع دراسته الثانوية قبل أن يهاجر إلى أوروبا ويصير واحداً من أكثر الكفاءات العلمية شهرة في العالم، بفضل اختراعاته التي جعلته يتبوّأ مكانة مرموقة أقرّ بها كبار العلماء والمراجع العلمية. واليزمي ركّز أبحاثه على بطاريات الليثيوم التي كانت غير قابلة للشحن، فتمكن من جعلها تُشحَن، قبل أن يحصل على وظيفة مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي في أواخر تسعينيات القرن الماضي.

لم يتوقّف هذا العالم المغربي عند هذا الحدّ، وعمل على عشرات الأبحاث والاختراعات العلمية وساهم في إنتاج روبوت لاستكشاف كوكب المريخ في عام 2005. ونال اليزمي وسام جوقة الشرف الفرنسي في عام 2015، وكذلك جائزة تشارلز درابر التي تمنحها الأكاديمية الوطنية للهندسة في واشنطن، بالإضافة إلى وسام العاهل المغربي للكفاءة الفكرية. يُذكر أن اليزمي لم ينسَ بلاده، وحرص على تعليم طلاب مغاربة.

إلى هؤلاء، نذكر من الأدمغة التي اختارت الهجرة للبحث عن مسارات مهنية أفضل، عصام أبو اليتيم جرّاح القلب المغربي الذي اشتهر في مجاله في فرنسا. وهو واحد من بين آلاف الأطباء المغاربة الذين هاجروا إلى فرنسا للعمل في مستشفياتها ومصحّاتها ومراكزها العلاجية.
ونزيف الأدمغة المغربية هذا أكّده تقرير حديث لهيئة الأطباء في فرنسا أفاد بأنّ الأطباء المغاربة يحلّون في المرتبة الثانية لجهة العدد بين الأطباء المهاجرين في فرنسا، مع نحو سبعة آلاف طبيب، ستّة آلاف و510 أطباء يمارسون بصورة دائمة و430 طبيباً بصورة متقطعة. وأعاد التقرير هجرة الأدمغة الطبية من المغرب إلى فرنسا إلى أنها وعلى غرار دول أوروبية أخرى تنتهج قوانين جديدة تتيح لهؤلاء الأطباء الحصول على امتيازات مهنية ومالية لن يتمكّنوا منها لو بقوا في بلادهم الأصلية.

في هذا السياق، يقول الدكتور يسوف بن الغياثية، وهو أكاديمي وخبير في العلاقات الدولية الثقافية يقيم في كندا، إنّ "ثمّة نزيفاً داخلياً وخارجياً للأدمغة المغربية". ويشرح لـ"العربي الجديد" أنّ "النزيف الداخلي لا يتنبّه إليه الناس عادة، إذ إنّ مناطق كثيرة في البلاد تهاجِر إلى مناطق أخرى أكثر غنى وأكثر جذباً من المناطق التي تأتي منها الكوادر".



ويتحدّث الخبير المهاجر عن "مدينة أغادير (جنوب البلاد) التي لا تضمّ مكتبة عامة واحدة بمعيار دولي ولا على دار أرشيف، وتعرف نزيفاً خطيراً لأدمغتها، خصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة". يضيف أنّ "أيّ مواد بحثية من وثائق وغيرها لا تتوفر فيها، بالحدود الدنيا، في حين أنّ مونتريال الكندية على سبيل المثال تؤمّن أكثر من خمسة ملايين قطعة مرجعية متنوعة".

أمّا النزيف الخارجي للأدمغة، فيعيده بن الغياثية إلى "الاختيارات السياسية، وإلى الطبقة الحاكمة التي تنظر إلى الشعب كعدو لها. فإذا تعلّم المواطنون وارتقوا وتحضّروا، يصيرون خطراً على تلك الطبقة. ومنذ الاستقلال، عملت الدولة على إجهاض مشروع تعليم الناس". يضيف: "واليوم نحن نجني النتيجة، أي تدمير المدرسة العمومية وتجفيف منابع التربية والتكوين، الأمر الذي نتجت عنه هجرة كثيفة للكوادر والأدمغة والخبراء. وتُرِك المجتمع بالتالي يواجه خطر التوحّـش والهمجية في مقابل ضمور الإنسانية والأخلاق وضعف التنشئة الاجتماعية".

ويلفت بن الغياثية إلى أنه "لا يمكن تحميل طرف واحد فقط المسؤولية، بقدر ما ينبغي أن نعمل جميعاً اليوم على وقف الانحدار حتى لا تفنى كياناتنا ونقع في أسوأ السيناريوهات، ومنها الحروب الأهلية والفوضى واستفحال التخلف والتراجع الحضاري والعلمي". ويدعو المسؤولين إلى "إعادة النفَس البحثي والعلمي والابتكار في كل مجالات العلم والفكر التي يحتاجها المجتمع، وإيجاد مراكز جذب للكوادر المحلية لإبقائها وتنميتها"، مطالباً "المسؤولين الوطنيين بأن يقوموا بالأمر نفسِه لإبقاء أدمغتنا في بلادها".