فلسطين الشتات... عذاب في مخيمات الضفة الغربية (3- 8)

فلسطين الشتات... عذاب في مخيمات الضفة الغربية وإذلال على الحواجز (3- 8)

17 مايو 2018
الاحتلال أساس كلّ المشاكل (حازم بدر/ فرانس برس)
+ الخط -


الضفة الغربية هي التجمع السكاني الفلسطيني الأكبر على الإطلاق ببلداتها ومدنها من جهة ومخيماتها من جهة أخرى. الجميع هنا يعاني من الاحتلال ومداهماته وإذلاله المواطنين بطرق مختلفة، فالأوضاع المعيشية الصعبة تفرض على الأهالي البحث عن عمل في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. هذا الأمر يجبرهم على المرور من الحواجز الصهيونية مع ما في ذلك من انتهاك يومي لهم. ليس ذلك فحسب، فالمداهمات الصهيونية وهجمات المستعربين مستمرة على المدن والبلدات والمخيمات، تحصد الكثير من الضحايا والمعتقلين. في ما يأتي، الحلقة الثالثة من ملف "فلسطين الشتات"...

تنادي السلطة الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 والتي يشملها القراران الدوليان 338 و242، الصادران في أعقاب الحرب التي جرت ذلك العام، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبار أنّ باقي الأراضي العربية المحتلة تتبع مصر وسورية (سيناء والجولان).

طرد "الأغيار"

حلّ الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية الذي جرى الالتزام به منذ عقود من الجانب الفلسطيني، بات رائجاً لدى كثير من الدول في العالم التي ترى فيه الحلّ الوحيد الممكن لقضية الصراع المستمرة منذ 70 عاماً على نحو شبه متواصل، ويدعو إلى قيام الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية اللتين تعيشان ضمن حدود آمنة ومعترف بها. لكنّ هذا المسعى الفلسطيني ترى فيه إسرائيل نقيض وجودها، فهي قامت في الأساس على مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وبعد هذه الرحلة الطويلة والانتصارات العسكرية يأتي من يذكّرها أنّ هناك شعباً يريد الحصول على استقلاله من خلال دولته المستقلة، وهو أبسط الحقوق المقرة في ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان. لذلك، تعمل إسرائيل على تصفيته فعلياً وسياسياً من خلال اعتبارها أن الضفة الغربية هي بالأصل أراضٍ إسرائيلية سيطر عليها العرب والمسلمون قروناً طويلة، وآن الأوان لعودتها إلى جذورها العبرانية والتوراتية. أما السكان الذين يقيمون عليها حالياً فليسوا سوى "الأغيار" الذين يتوجب استعبادهم أو قتلهم أو اعتماد أي شكل من أشكال العبودية بما فيه الطرد وإنكار حقوقهم تماماً ومنعهم من التعبير عن وجودهم هذا.




على هذا الأساس، تتضاعف المشاريع التي تهدف إلى إنهاء ما يمكن التفاوض بشأنه من أراضي الضفة. ولقد مارس الإسرائيليون الطرد المنهجي منذ إعلان قيام دولتهم، فجرى تدمير القرى والبلدات والمدن على نحو كامل أو جزئي ومعها تم تهجير السكان من بيوتهم وممتلكاتهم، وجاءت الحصيلة تشريد نحو 800 ألف فلسطيني نحو الدول العربية. كررت إسرائيل أنّ على الفلسطينيين أن يذهبوا إلى الدول العربية والإقامة فيها والحصول على جنسياتها، وألاّ يحلموا بالعودة بالرغم مما نص عليه القرار رقم 194 الصادر عن مجلس الأمن الدولي منذ 70 عاماً. أكثر من ذلك، تتلاحق الدعوات الصهيونية من دون انقطاع إلى ترحيل من تبقى من الفلسطينيين عن أرض فلسطين إلى المكان الذي يقبل باستقبالهم في دول العالم. وأما من تستجلبهم من كلّ بقاع العالم من اليهود فهم أصحاب الحق بهذه الأرض.

تضاعف الفلسطينيين

خلافاً للهنود الحمر الذين تعرضوا لمجازر وتشتيت في أميركا، لم ينقرض الفلسطينيون، لا في بلادهم، ولا في الدول التي أرغموا على اللجوء إليها. وإن ظلت الضفة الغربية هي المنطقة الفلسطينية التي تضم أكبر تمركز سكاني تاريخي لهم، باعتبار أنّ من بقي منهم في أراضي العام 1948 بات وضمن سياسة جذب المهاجرين اليهود، أقلية، وإن كانت ذات وزن فعلي، كما أنّ هؤلاء يقيمون في صميم ما يسمى بدولة إسرائيل المحروسة بالعديد من الاستراتيجيات والسياسات الأميركية والأوروبية، وليس في أرض قامت باحتلالها على مرأى العالم ومسمعه في أعقاب الهزيمة العربية المعروفة.

تشير الإحصاءات إلى أنّ عدد الفلسطينيين يتضاعف رغماً عن إسرائيل وسبلها المتنوعة للقضاء عليهم أو تبديدهم في الدول والمجتمعات البشرية. وتؤكد معلومات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني الذي يتبع السلطة الفلسطينية في رام الله أنّ عدد الفلسطينيين تضاعف منذ النكبة تسع مرات. ويقدر الجهاز نفسه أن عدد الفلسطينيين في العالم نهاية العام 2015 قد وصل إلى نحو 12.4 مليون نسمة، وهذا يعني أنّ عددهم تضاعف 8.9 مرات. أما عدد فلسطينيي الداخل (أراضي العام 1948) فقد وصل نهاية العام 2014 إلى نحو 1.5 مليون نسمة، كما أنّ عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع مع نهاية عام 2017 بلغ 4 ملايين و781 ألف نسمة وعليه، فإنّ عدد الفلسطينيين المقيمين حالياً في فلسطين التاريخية ما بين النهر والبحر قد بلغ نهاية العام 2016 نحو 6.3 ملايين نسمة، ومن المتوقع أن يصل العدد مع نهاية العام 2020 إلى ما مجموعه 7.1 ملايين نسمة. ومن أصل المجموع السكاني الفلسطيني هناك ما نسبته 28.7 في المائة منهم يعيشون في 58 مخيماً منتشرة في عموم مناطق اللجوء، إذ هناك 19 مخيماً في الضفة الغربية و8 في قطاع غزة و10 في الأردن و9 في سورية و12 في لبنان. لكن هناك مئات التجمعات التي تنتشر في المدن والبلدات والقرى بنتيجة بقاء مساحات المخيمات المعترف بها على حالها، وتزايد السكان الطبيعي، فضلاً عن ظروف الفوضى التي دفعت البعض إلى استعمال المزيد من المساحات لسكنهم وأعمالهم.

رسم للفنان بانكسي في مخيم العروب - بيت لحم (فرانس برس) 

ملاذ المقاومين

إذاً، يمكن القول في اللحظة السياسية الراهنة إنّ الضفة الغربية هي خط المواجهة الفعلية مع دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني برمته خلافاً للقطاع الذي اضطر الاحتلال إلى الانكفاء عنه تاركاً المدينة ومخيماتها لمأساتها السياسية والبشرية والاقتصادية والمعيشية. وكما ذكرنا، يتوزع اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية على 19 مخيماً منها: بلاطة وجنين والفوار وعسكر وعقبة جبر والدهيشة وعايدة وشعفاط ودير عمار والجلزون وعين السلطان وقلنديا والعروب والأمعري ونور شمس. والعدد الإجمالي لسكان الضفة بموجب إحصاء جرى إنجازه عام 2017 هو 2.881.687 نسمة بينما يبلغ عدد اللاجئين في مخيمات الضفة ما مجموعه 710.681 وغير المسجلين 30.987 عام 2006. والمشترك بين سكان الضفة واللاجئين إليها من فلسطين التاريخية هو الصمود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته التي تطاولهما معاً.

من جهة السكان، يمارس الاحتلال الضغوط عليهم لدفعهم إلى الرحيل أو الخنوع لسياسات الاحتلال والتعود عليها وقبولها، بما فيها عمليات الإذلال اليومي والحواجز والجدار العازل وسوق الشبان إلى المعتقلات وقتل الشبان والشابات بدم بارد تحت ذرائع نواياهم بمهاجمة جنود الاحتلال بالسكاكين والأسلحة البيضاء، ودفعهم إلى الرضى بالتخلي عن الأراضي التي تصادرها سلطات الاحتلال وتقيم عليها المزيد من المستوطنات أو الطرق الدائرية والالتفافية، بالإضافة إلى المواقع العسكرية لوحداتها، والاستكانة أمام سياسة هدم بيوتهم وامتهان كراماتهم.

ومن جهة المخيمات، فإنّ سلطات الاحتلال تعتبرها مناطق مضاعفة الخطر، ومشبوهة دوماً باعتبارها ملاذاً آمناً للمقاومين ومصدراً للجموع في خوض المواجهات اليومية التي تشهدها شوارع المدن والبلدات والقرى. وقد سبق تعرض العديد من المخيمات لأعمال انتقامية وتأديبية إسرائيلية قاسية لثنيها عن القيام بدورها في المواجهة، وكبح فاعليتها السياسية، على الرغم من كثير مما يحيط بدورها السياسي جرّاء تعقيدات العمل السياسي في ظل الاحتلال، وضمن البنية السياسية الفلسطينية المليئة بالأعطاب والثغرات.



اغتراب

أظهرت دراسة أعدتها الباحثة هبة خليل سعدي المبيض عن "الاغتراب والاندماج السياسي" في مخيم بلاطة المقدر عدد سكانه بنحو 25 ألفاً، أنّ هذا المخيم الذي يعاني من مشاكل صحية وتعليمية واجتماعية وسكنية ومعيشية يعبّر فيه اللاجئون عن اغترابهم السياسي بأشكال متعددة من بينها العزلة والتمرد وعدم التكيف، ونسبة هؤلاء تصل إلى حدود 65 في المائة. لكنّ العديد من العوامل تلعب دورها كمتغيرات في هذا الوضع من بينها العمر والجنس والمؤهل العلمي، بالإضافة إلى أنّ مسائل من نوع التعرض للأسر وعدد أفراد الأسرة وطبيعة الممتلكات والانتماء السياسي يؤثر في أوضاع اللاجئين من دون أن تتأثر هذه بالحالة الاجتماعية ونوع السكن والدخل. وهو ما يعني أنّ الحالة التي خصصت الباحثة عملها لتحليلها لا تتأثر بالعوامل الاقتصادية – الاجتماعية، كون السبب الفعلي هو هنا الاحتلال ومضاعفاته على الأشخاص، وشعورهم بالاغتراب وقدرتهم على تحقيق الاندماج السياسي.

تخلص الباحثة إلى العديد من التوصيات التي تشدد على تفعيل دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، وإشراك اللاجئين في الحياة السياسية مباشرة أو عبر ممثلين عنهم، والعمل على تحسين أوضاعهم الاجتماعية بما يخفف من نسبة الفقر، والتأكيد على دور اللجان الشعبية وصانعي القرار في تعزيز صمودهم، وتختم بالدعوة إلى القيام بالمزيد من الدراسات حول اللاجئين ومجتمعاتهم تحديداً.

من المعروف أنّ الاغتراب الاجتماعي والسياسي يقود إلى الانفصال عن الآخرين، ويحدث بالترافق مع مشاعر الخوف والقلق النفسي وينجم عنه الإحساس بالغربة والعزلة والحصار ويدفع إلى الانسحاب من الواقع. ويشعر من يعاني من الاغتراب السياسي بعدم القدرة على التأثير في القرارات السياسية، وأنّ صانعي القرار لا يقيمون أيّ اعتبار له ولا يحسبون له حساباً. وتبعاً لذلك، يمتنع عن المشاركة في الأنشطة السياسية وكلّ عملية تتطلب مشاركته والتعبير عن رأيه.

مواجهات مع الاحتلال في بيت لحم (فرانس برس) 

بطالة

لكنّ الأمر يتجاوز الجوانب النفسية والاجتماعية ليصل إلى الجوانب الاقتصادية والمعيشية، فقد أظهرت معظم الدراسات التي نفذت تباعاً من وكالة الأونروا والمعهد العالي للدراسات التنموية في جامعة جنيف والبنك الدولي وغيرها، وهي دراسات تعتمد على عينات تصل أحياناً إلى أكثر من 1600 شخص، أنّ جملة الإجراءات الإسرائيلية بما فيها الجدار العازل وعمليات إغلاق المناطق الاسرائيلية ومنع الفلسطينيين من الدخول إليها للعمل، قادت إلى تدهور حاد في المداخيل بالنظر إلى الارتباط بين الاقتصادين الإسرائيلي والفلسطيني وهو ارتباط تابع بمتبوع بطبيعة الحال. فمثلاً، في العام 2000 تراجع عدد الفلسطينيين العاملين في إسرائيل من 125.000 إلى 2100 عامل فقط، ما أدى إلى تراجع مداخيلهم (المتوسط هو 27.5 دولاراً أميركياً يومياً) من 3.4 ملايين دولار يومياً إلى 400 ألف دولار، ما يعني أنّ الخسائر اليومية الصافية بلغت 3 ملايين دولار من مداخيل الأسر. وتقود جملة الإجراءات الإسرائيلية إلى ارتفاع في معدلات البطالة، لتصل إلى ما يتراوح بين 30 و40 في المائة، ما يقود إلى هبوط حاد في المستويات المعيشية.

ترتفع نسبة البطالة بين اللاجئين عن سواهم، واللافت أنّ معظم التقارير تصل إلى خلاصات لجهة تأثير الأحداث السياسية على خسارات العمل، فمثلاً خلال الانتفاضة الأولى فقد 72 في المائة من الأشخاص أعمالهم و11 في المائة احتفظوا بها و16 في المائة وجدوا عملاً لهم في أماكن أخرى.



وبيّن تقرير وضعته وكالة "وفا" للأنباء أنّ 79 في المائة ممن كانوا يعملون في إسرائيل ويقعون تحت خط الفقر هم من سكان المخيمات، بينما تقول إنّ عمال موظفي السلطة الوطنية لم يتأثروا بسبب الانتفاضة، بالمقارنة مع 45 في المائة في أوساط العاملين في القطاع الخاص، و40 في المائة من ذوي الأعمال المستقلة تأثروا.

وأظهرت دراسة أعدها مركز اللاجئين والشتات الفلسطيني (شمل) أنّ 87 في المائة من الفلسطينيين في المناطق المحتلة الذين شملهم المسح تدهورت أحوالهم المعيشية إلى حافة الفقر المدقع، وثلث هؤلاء لا تكفيه مدخراته، بينما هناك أقل من الثلث بإمكانه تدبر أموره، وربع المشمولين نفدت مدخراتهم، لكن هناك 9 في المائة بإمكانهم الصمود لفترة طويلة. والمعروف أنّ معظم سكان المخيمات يعتمدون على ما تقدمه لهم وكالة الأونروا من المساعدات التموينية والغذائية والخدمات الصحية والتعليمية، لكنّ تراجع التمويل للأونروا من جانب الدول المانحة يدفع إلى تقليص هذه التقديمات، ما يدفع هذه العائلات للجوء إلى طلب المساعدات من صناديق الهيئات الدينية ومنظمات المجتمع المدني. لكنّ الأكثر كارثية يتمثل في إخراج أولادهم من المدارس والزجّ بهم في سوق العمل.

كلّ ما سبق معطوفاً على التخلي العربي والدولي يؤشر إلى وضع يدفع إلى البحث عن بدائل في مقدمها يأتي الرحيل ومغادرة وطن لا أفق مرئياً لنهاية محنته العنصرية.

*باحث وأستاذ جامعي