عبيد الطماطم... مهاجرون في حقول جنوب إيطاليا

عبيد الطماطم... مهاجرون في حقول جنوب إيطاليا

30 يوليو 2018
تواطؤ شركات ودول (ستيفانو مونتيسي/ فرانس برس)
+ الخط -
في إيطاليا مهاجرون يعملون في ما يشبه العبودية والسخرة، إذ يجبَرون على العمل في حقول الطماطم تحت التهديد، وعندما يحلّ موعد دفع أجورهم يخصم منها. تعرض "العربي الجديد" قصصهم في اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالأشخاص

يلحظ "المؤشر العالمي للرق" أنّ نحو 40 مليون إنسان حول العالم يعيشون "عبودية حديثة" من خلال استغلالهم في أعمال زراعية وغيرها. تقرير المؤشر العالمي، الذي أنجز بالتعاون مع مؤسسة "ووك فري" لمكافحة الاتجار بالبشر والعبودية، يدعو إلى الضغط على الحكومات والشركات لإنهاء هذه العبودية بتحمل مسؤولياتها، إذ إنّها تتواطأ من خلال موافقتها على أنماط التجارة تحت ظروف العبودية، وتستورد الإنتاج.

يقول الناشط روبرتو فابريزيو لـ"العربي الجديد" إنّ "ما يجري ليس سوى وجه آخر للعبودية الحديثة والاتجار بالبشر، ففي مزارع الطماطم الإيطالية يستغل هؤلاء وتهدد حياتهم ويوهمون بأنّهم أحرار، وآخرون يستغلون مالياً بسبب تحطم أحلام رسموها عن هجرتهم نحو أوروبا". فابريزيو نقابي وباحث مدافع عن حقوق من يصفهم بـ"عبيد العصر الحديث". اضطر منذ سنوات لمغادرة جنوب إيطاليا التي تنتشر فيها، وخصوصاً في بوليا في الجنوب الشرقي، مزارع الطماطم الضخمة، التي ترسل إنتاجها إلى مصانع الشمال لتصديره إلى المستهلك الأوروبي في أكثر من بلد. يضيف: "أغلبيتهم بلا إقامة، وآخرون مقيمون ويُستغلون بأبشع الصور". يعترف أنّه تلقى تهديدات اضطرته إلى المغادرة إلى شمال أوروبا، حيث يستمر في عمله اليوم، مع أوروبيين آخرين لإثارة هذه القضية منذ سنوات. في فودج، باقليم بوليا، لا يستطيع الجميع، بمن فيهم الصحافيون الإيطاليون، العمل بحرية لكشف ما يجري لعمال الطماطم، ممن يوصفون بـ"مهاجرين غير شرعيين".




عالم سري
إحدى أشهر قصص اختراق العالم السري كانت قبل 12 عاماً من خلال الصحافي في أسبوعية "ليسبريسو" فابيو غاتي، الذي جعل نفسه "عبداً" في بوليا باسم مستعار، كمهاجر من جنوب أفريقيا، دونالد وودس، (الصحافي الجنوب أفريقي الذي عرّف العالم على فظائع نظام الفصل العنصري، الأبرتهايد)، في مزارع ما سماه "الذهب الأحمر" مقيماً في معسكر مخصص لأغلبية من مهاجرين بلا أوراق رسمية، وبعضهم عالق في إيطاليا. في سبع صفحات خرج تحقيقه: "أنا عبد في بوليا، يوميات أسبوع في جهنم" لتوثيق ما عرف في إيطاليا وأوروبا عن "العبودية الحديثة".

من جهته، عرف فابريزيو، كما يذكر لـ"العربي الجديد"، "قصصاً فظيعة عن عالم مسكوت عنه، فيثار أحياناً ويخبو معظم الأحيان". يتابع: "لا شيء تغير، لم يتغير الوضع عما كان قبل نحو عقد، كان الأفارقة بمن فيهم مهاجرون عرب والرومان والبلغار يعيشون أفظع الظروف؛ عمل شاق مقابل 3 يورو في الساعة، لكنّك وبعد عمل يمتد، تحت حرارة تصل إلى 42 وإلى 45 مئوية، ولمدة تصل بالبعض إلى 17 ساعة، ستجد أنّ راتبك الذي يدفع في نهاية الأسبوع، مخصوم منه الكثير، تحت حجج السكن والمعيشة وغيرها، رغم أنّ هؤلاء العمال يرمى بهم للعيش في ظروف بدائية، في مخيمات لا تصلح للبشر، واليوم نحن أمام المزيد من التلاعب واستمرار العبودية بأشكال بشعة".

ما يذكره فابريزيو يتوافق كثيراً مع تقرير الصحافي غاتي الذي أفاد أنّ "من يحتج على تلك الظروف يُضرَب، وأحياناً يُقتل. كان يجري سوقنا في شاحنات كالبهائم عند الخامسة صباحاً إلى المزارع، ونعاد في العاشرة مساء، وأثناء العمل كان المراقبون يتابعون كلّ خطوة. سُمح لنا بأربع زجاجات ماء، وكنّا 17 عاملاً، لا إفطار ولا غداء، كنا نتناول الطماطم الخضراء، المرشوشة بالسموم، إن لم ينتبه المراقبون إلينا". حين تحدث فابريزيو عن واقع هؤلاء "العبيد" تذكر قصة "شاب جزائري (28 عاماً)، قادته ظروفه بعد الانتهاء من دراسة العلوم السياسية والعلاقات الدولية إلى الهجرة، يتحدث الايطالية والفرنسية والعربية، لكنّه كان يجثو على ركبتيه في مزارع الطماطم، وكان يردد: "من العار على الإيطاليين ألا يعرفوا من يكون نيلسون مانديلا أو ما كان يجري من أبرتهايد في جنوب أفريقيا".

بعض عمال تلك المزارع لم يحصل نظرياً على أكثر من 100 يورو أسبوعياً، ورغم ذلك، كان يخصم منها "40 يورو بحجة الاستضافة، من منامة ومياه وغيرها" وفقا للصحافي غاتي.




تاريخ طويل
قصة عبودية الطماطم ليست جديدة في إيطاليا. في عام 1906 صدر تقرير رسمي إيطالي عن نظام زراعة الطماطم في البلد يصف فيه ظروف عمل "لا تناسب البشر". بعد أكثر من قرن تخرج تقارير رسمية وشبه رسمية لتصف الوضع بأشبه بالعبودية، وبتقديم تبريرات غير منطقية لتعرض "16 في المائة من العمال لعنف جسدي و90 في المائة لاستغلال بشع بلا أوراق أو عقود عمل"، وفقا لتقرير "الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية"، باعتبارها "ناجمة عن "انخفاض سعر الطماطم، فالمزارع لا يحصل سوى على 8 سنتات عن كلّ كيلوغرام، وهذا يؤدي لوجود استغلال وسوء في وضع العمال في المزارع"، بحسب ما يخرج عن منظمة المزارعين، كولديريتي".

من خلال فابريزيو، وصلت "العربي الجديد" إلى أحد أطباء الدنمارك، الذي عمل في صفوف منظمة "أطباء بلا حدود"، وتعاون مع "أطباء من أجل الحقوق" الإيطالية عام 2004، وممن أعدوا تقريراً حول وقائع تلك العبودية في 2005. يقول الطبيب بيتر (وتحتفظ الصحيفة باسمه الكامل بناء على طلبه): "لم أستطع تحمل ذلك النفاق (وبالمناسبة تقرير أطباء بلا حدود صدر بعنوان "نفاق الفاكهة" عن مزارع الطماطم) في غضّ السياسيين طرفهم، سواء في إيطاليا أو في أوروبا عن تلك البشاعة. كنت حين استمع إلى شهادات من استعبدوا أشعر بالعار أنّ ذلك يحصل في أوروبا اليوم. توصلنا إلى أنّ 50 في المائة من هؤلاء البائسين لا يستطيعون الوصول إلى الماء، و40 في المائة منهم يعيشون في مخيمات وبيوت لا تصلح للبشر، و43 في المائة ليست لديهم مراحيض. وكلّ المهاجرين، بلا استثناء، في تلك الحقول لديهم أمراض جلدية وانتشار طفيليات في الأمعاء وفي الفم ومشاكل في الجهاز التنفسي". يضيف الطبيب بيتر: "أنت أمام أناس يعاملون كحشرات. المبيدات المستخدمة تجعلهم يشعرون فعلاً أنّهم حشرات". يردف: "أنت بلا شك أمام مافيا متشابكة الخيوط، فكيف يُقبل أن يعيش هؤلاء البشر تحت مستوى معايير الأمم المتحدة في دول تعتبر نفسها رائدة في حقوق الإنسان؟ وبالمناسبة فالأمر أكثر انتشاراً منذ عام 2008 ليشمل حتى البرتغاليين الذين يجري استعبادهم بنفس الطريقة. وإذا كان البعض يعتقد بأنّ الأمر فقط في جنوب إيطاليا فحسب فهو مخطئ، عليهم أن يروا حقيقة ما يجري في مناطق أخرى".




رصد للفظائع
على موائد الأوروبيين، تجد معلبات أنيقة، ففي متاجرهم ستجد ما ينتجه الإيطاليون الشماليون، خصوصاً مصانع "موتي" و"كونسيرفا إيتاليا" بعد أن تشحن من الجنوب. في المواسم، لن يقلّ عدد "عبيد الطماطم" عن 100 ألف إنسان، أغلبيتهم الساحقة من المهاجرين وطالبي اللجوء، وبعض مواطني أوروبا الشرقية.

في تقرير صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 تتحدث منظمة "دان ووتش" الحقوقية الدنماركية المختصة في الصحافة الاستقصائية، عن "ظروف أشبه بالعبودية في مزارع الطماطم". ويذكر أحد متطوعي هذه المنظمة، مورتن سيغمود، لـ"العربي الجديد" أنّه "حتى بعد كلّ الفضائح والتقارير التي تناولت الموضوع، ما زالت حقول الطماطم تعمل كما في السابق، إذ لا يقلّ عدد ساعات العمل عن 12 ساعة يومياً". ويشير معهد الجامعة الأوروبية إلى "نحو 330 ألف مهاجر/ لاجئ يعملون في قطاع الزراعة الإيطالي".

في تقرير دان ووتش، الذي يستند أيضاً إلى أرقام مرصد نقابة الزراعة الإيطالية "مرصد بلاسيدو ريزوتو" فإنّ "أغلبية من يعمل في مزارع الطماطم، من بين 430 ألف مهاجر، هم بلا عقود عمل والجزء الأعظم ممن يستغلون هم بلا إقامات في إيطاليا". وبما أنّنا صحيفة عربية، راح سيغمود يذكرنا بما يجري: "فأنت ترى مهاجرين عرباً، من شمال أفريقيا وغيرها، يجري استغلالهم دونما ضجيج. خذ مثلاً قصة السوداني عبد الله محمد وسترى أيّ جرائم ترتكب بحق هؤلاء". ويمضي الطبيب بيتر: "تقرير دان ووتش يهدف لوقف استيراد الطماطم بجميع أشكالها من جنوب إيطاليا، وإثارة انتباه المستهلك والمشرعين الأوروبيين. لاحظ أنّ عبد الله (47 عاماً) جاء كلاجئ في مركب مع أسرته، وكان يأمل أن يستمر في الرحلة إلى فرنسا، لكنّ حظه قاده عام 2015 إلى جنوب إيطاليا، ليعمل تحت تلك الظروف، فيصاب بنوبة قلبية ويهمل حتى يلقى حتفه".

بالرغم من أنّ الادعاء الإيطالي وجه تهمة القتل لأصحاب المزارع، وأعضاء عصابة "كابورالا" فإنّ القضية انتهت بتوجيه مخالفة اتهام "إهمال طبي، بغياب الإسعاف الأولي والمراقبة الطبية". اهتمام "دان ووتش" بقضية موت السوداني محمد عبد الله يأتي أيضاً لأنّ "شركة إنتاج الطماطم موتي في شمال إيطاليا هي مصدر رئيس لمتاجر الدنمارك والنرويج وغيرها، ونحن أردنا أن نقول للمستهلك: أنت تأكل ما يقدمه لك منتجون دمويون وبطريقة عصابات لا تأبه بأرواح البشر" يشرح الطبيب بيتر.



مافيا وفساد
حياة القهر التي يعيشها "عبيد الطماطم" تشمل استعباداً من نوع آخر في عصرنا الحالي، فهؤلاء الذين يعلقون في إيطاليا يجدون أنفسهم مضطرين للعمل في أيّ شيء لتأمين معيشتهم، على أمل تجميع الأموال للاستمرار نحو بلاد أوروبية أخرى، وبعضهم يكون قد استدان أموالاً على أمل أن يسددها فور وصوله إلى أوروبا، وتكون أسرته في ضائقة وانتظار، وبعضهم، وفقاً لما يذكره بيتر "يكون قد علق في عبودية المهربين الذين يجبرونهم على دفع جزء معين من مداخليهم في السنوات الأولى، كحالة بعض الإريتريين".

الاستغلال الإيطالي لهؤلاء يتخذ أيضاً مساراً أمنياً، عدا عن الضرب المبرح والحرمان من الأكل، باستخدام عصابات "كاربورالا"، كما يتحدث فابريزيو لـ"العربي الجديد" عن دورها في جلب العمال والتحكم بهم. يقول إنّ أرباب العمل يوم دفع الأجور، يدفعون أدنى مما هو متفق عليه. ومن يرفض ويحتج يُهدَّد بالشرطة، التي يجري إبلاغها، فتنظم حملة على مكان الإقامة وتعتقل المحتجين، وفقاً لقوائم من المراقبين، باعتبارهم مهاجرين غير شرعيين، وبهذه الطريقة، لو حسبت آلافاً ممن يحرمون من تلقي الأجور تحت التهديد ستجد أنّ عبودية الطماطم باتت تحلّ مكان تهريب المخدرات".

في التقرير المشار إليه لدان ووتش، والمدعّم أيضاً بتقارير نرويجية حقوقية في الاتجاه نفسه، نجد أنّ عمال الطماطم لا يتلقون ما يستحقون من أجور ولا حتى وفقاً للقانون الإيطالي الذي يقضي بأنّ "كلّ صندوق يملأه العامل يجب أن يتلقى عليه 2.5 إلى 3.5 يورو، فهؤلاء يعملون لساعات ولا يتلقون كحد أقصى سوى 1- 2 يورو في الساعة، وعملياً، فبعد عمل 12 إلى 17 ساعة يومياً، من دون يوم استراحة، يجري خصم أكثر من نصف ذلك المبلغ تحت التهديد والترهيب".

تدعي تقارير أوروبية أنّ عبودية الطماطم "هي جريمة منظمة، تستمر وتتزايد طالما أنّ الحكومات لا تقوم بواجباتها. وإذا ما نظرت إلى الكيفية التي تقاد بها سياسة اللجوء، فستخلص إلى نتيجة أنّ ما يجري هو تنظيم مقصود لاستغلال عمالة رخيصة للقطاع الزراعي الإيطالي" وفقاً لرئيسة تحرير موقع "دان ووتش" لويزا فوللر.

في أكتوبر/ تشرين الأول خرج تقرير بحثي عن "دان ووتش" بأدلة إيطالية عن "روابط المافيا بنظام استقبال الهجرة واللاجئين، وتسيير أمور معسكرات الاستقبال في جنوب البلاد لتكون على مشارف المزارع، التي يجري استغلالهم فيها". وكشفت الصحافة أنّ إيطاليا "تشهد الكثير من الفضائح حول الجريمة المنظمة المرتبطة بسياسة اللجوء والهجرة وإدارة معسكرات الاستقبال". وتذهب صحف "ليسبريسو" و"غارديان" "وفايننشال تايمز" إلى أنّ "المافيا والمنظمات الإجرامية الأخرى ترى في تدفق المهاجرين إلى إيطاليا فرصة للتربح، فأموال تعليم اللغة في معسكرات اللجوء تذهب إلى جيوبهم، كما في واحد من أكبر معسكرات الاستقبال "إزيلا دي كابو ريزوتو" في كالابريا التي تهيمن عليها عصابات تدير أعمالها عبر مركز تابع لمنظمة كاثوليكية غير حكومية، فعشيرة أرينا، المنضوية في عصابة ندرانجيتا الشهيرة، تستغل نظام الدعم المقدر بـ100 مليون يورو لتعليم اللغة في المعسكرات، لإجبار طالبي اللجوء على العمل 10 ساعات في المزارع بحجة تعليمهم اللغة".




وبالرغم من كشف السلطات لهذه الفضائح خلال السنوات الماضية، إلا أنّ عدداً من الصحف والمنظمات الحقوقية يتحدث عن "فساد في روما يجعل الأمر مستمراً". وتشير تلك المصادر إلى قضية "محاكمة 40 سياسياً وموظفاً في روما عام 2014 لها علاقة باستغلال المهاجرين في مزارع الجنوب، لم توقف استمرار الوضع أبشع مما كان". وتبرز أقوال زعيم المافيا، سالفاتور بوزي، المحتج على محاكمته، والذي تنصتت عليه السلطات ونشرت تلك الأقوال، لتشير إلى هذا الاستغلال بوضوح: "هل يعلم أحدكم كم يمكنني جني أرباح بهؤلاء المهاجرين؟ إنّ الاتجار بالمخدرات أقل ربحية من ذلك".

المساهمون