إعاقات الحرب... أجساد صغيرة تحمل آثار الأزمة السورية

إعاقات الحرب... أجساد صغيرة تحمل آثار الأزمة السورية

30 أكتوبر 2018
في حلب (كريم كوشالار/ الأناضول)
+ الخط -


أصعب أشكال الإعاقات هي التي تتسبب فيها الحرب عموماً، إذ لا يكون المصابون بالغارات والرصاص والشظايا أو أهلهم مجهزين للتعامل معها، ناهيك عن ظروف الحياة القاسية، كما هي الحال مع أطفال سورية.

يحمل عشرات آلاف الأطفال السوريين، إرث أكثر من سبع سنوات من حرب دامية في البلاد سرقت أحلامهم، مما يظهر في أجسادهم، وفي حياتهم الشاقة المليئة بالحسرات. مجد (9 أعوام) طفل لا يخفي وجهه القهر والحزن. بيده يرحب بـ"العربي الجديد" من دون أن يهمس بكلمة، محتفظاً بمكان جلوسه. كما لا يخفي منزل مجد، فقر حال عائلته، فجزء من المنزل ما زال من دون أثاث، وما يوجد منه بسيط جداً، ونال منه الزمن حتى رثّ ورقّ وتآكل، وهو بالكاد يستر أرضيته.

يقول والد مجد لـ"العربي الجديد": "أعتذر، فمجد لا يستطيع الكلام، كما لا يستطيع الوقوف وحده". يتنهّد ويستأنف حديثه: "في بلدتنا بريف إدلب الجنوبي كنت أقف مع مجد أمام المنزل نلاعب أخته آية، وهي أصغر منه، كان ذلك في أحد أيام شهر نوفمبر/تشرين الثاني المشمسة، عندما حصل ما حصل". ينظر إلى مجد ويحاول أن يخفي دموعه، ويتابع: "هو كابوس مرعب، فخلال لحظات سمعت طائرة تحوم في المنطقة، وبينما كنت أهمّ بإدخال الأطفال إلى المنزل، نظرت إلى آية في حضني، فكانت كأنّها تصرخ لكن لا أسمعها، كانت الدماء تغطيها، ونحن على الأرض، حتى جدار المنزل الذي كنت أقف بالقرب منه لم أعد أراه، في وقت انتشر الركام من حولنا. لم تكن الرؤية جيدة عندي بسبب الغبار الذي ملأ الأجواء، بالإضافة إلى رائحة البارود التي كادت تخنقنا".



يضيف الوالد: "بعد قليل جاء الجيران والمسعفون، فأخذوا آية من بين يديّ ليسعفوها، وبدأوا في حملي، لكنّي كنت أنادي بكلّ ما تبقى لديّ من قوة باسم مجد. مرت دقائق خلتها حينها ساعات، إلى أن وجدت مجد مرمياً على الأرض وسط بركة من الدماء تنزف من رأسه الصغير مغطية ملامحه". لم يتمكن المستشفى الميداني في المنطقة من تقديم الإسعافات المطلوبة لمجد، فنقل إلى مستشفى "إسكندرون" داخل الأراضي التركية. كانت شظايا صاروخ الطائرة قد هشمت جزءاً من جمجمة مجد، ما أضر بالدماغ. كدنا نفقده، لكنّ الله كتب له الحياة من جديد، وعاد إلينا بعدما فقد النطق وبات لديه شلل في نصفه الأيمن". بحرقة وغُصة، ودموع تهرب من عينيه، ويحاول أن يمسحها، يقول والد مجد: "بسبب الفقر والعناية الطبية غير السليمة، أصيب ساعد يده بالغرغرينا، لتبتر عقب نحو 6 أشهر من الحادثة".

مع كلّ ذلك، يحمد الوالد الله على كلّ حال، ويقول: "بعد عام على ذلك اليوم المشؤوم، وجراء ما يتوفر من علاج فيزيائي، أصبح مجد قادراً على الوقوف والمشي لبضع خطوات مع قليل من المساعدة، لكن ما زالت لديه صعوبات في النطق". يعاني مجد في جميع تفاصيل حياته اليومية، فهو بحاجة إلى مساعدة لقضاء أبسط حاجاته، وقد يطول الأمر مع ضعف الرعاية الطبية وغياب التجهيزات التي يحتاجها. مجد اليوم لا يستطيع أن يصعد إلى درج المنزل ليسهر مع عائلته على السطح في ليالي الصيف، ويعد المشي البطيء عملاً شاقاً عليه بالرغم من مساعدة العائلة له. يجلسه والده في كرسي متحرك حصل عليه من أحد أهالي البلدة، ليستطيع أن يرى أشقاءه وأقرانه وهم يلعبون في الفناء لا أكثر. ويشكو الوالد من أنّ مجد، ذلك الطفل الحيوي والفرح، بات اليوم يجلس بين أفراد أسرته منعزلاً غافلاً عما يدور من حوله. لن يستطيع مجد اليوم أن يهمس في أذن أمه بما يشتهي، أو يلعب مع والده أو أشقائه، فلا أحد من أبناء الشارع يناديه للعب كرة القدم.




كذلك، خسرت ابنة الزبداني، غنى قويدر (12 عاماً)، قدرتها على المشي بسبب طلق ناري، ولحسن حظها خرجت خلال الحصار بعد حملة تضامن كبيرة لتتلقى العلاج. لكن على الرغم من خروجها وإجراء عملية لها، لم تستطع أن تستعيد قدرتها تلك، بل تنتظر إجراء عملية أخرى حين تبلغ 18 عاماً، إذا كان في إمكان عائلتها تغطيتها مالياً. وهكذا، ستعيش طوال السنوات الست المقبلة تنتظر العملية.

عمر حمدان (15 عاماً)، من أبناء الزبداني أيضاً، كان حظه أسوأ من غنى، فبينما كان يستعد للتقدم إلى امتحان شهادة التعليم الأساسي، ما اضطره وأقرانه إلى الخروج من الزبداني إذ كانت كلّ مدارسها قد أغلقت أبوابها، جراء الأحداث التي كانت تشهدها المدينة، تعرّض إلى رشقة من الطلقات من حاجز قريب على منزله. إحدى الطلقات استقرت في عموده الفقري، وأخرى ألحقت ضرراً بالرئة، وبالرغم من إجراء أكثر من عمل جراحي له، يعيش مع شلل سفلي حالياً. لدى عمر، المهجّر اليوم مع عائلته، بعض الأصدقاء الذين يترددون عليه، في وقت يحاول والده جاهداً أن يخرجه من جو الكآبة والعزلة الذي يعاني منه. بذل كلّ إمكانياته ليؤمّن له دراجة نارية بأربع عجلات، تعطيه حرية التنقل في الشوارع، بالرغم من أنّ تأمينها لم يكن سهلاً بسبب الوضع المادي السيئ. ويبقى عمر في حاجة لمن يساعده في الركوب على الدراجة أو الترجل عنها، في وقت حرمه الحصار الطويل ووضعه الصحي من متابعة دراسته.



أما عبد الله حمدان (16 عاماً)، فقد كان يسكن في بلدة بقين القريبة من الزبداني، جنوب دمشق، والتي كانت بدورها تخضع لحصار واحد مع مضايا، تحوّل في أحد الأيام إلى هدف لحاجز العسلي بالقرب من منزله، الذي كان يستهدف المدنيين، فجاءت رصاصة القناص في فخذه ما تسبب بكسر متمدد في عظم الفخذ، ولم تنجح كلّ المناشدات الإنسانية والأمم المتحدة حينها في إخراجه من الحصار، وبقي فترة طويلة مصاباً. لم يكن في المنطقة أيّ طبيب جراح أو طبيب عظم حتى، فوضع الجبس بشكل غير صحيح، وترافق ذلك مع ألم شديد مستمر، وعقب التهجير ووصوله إلى الشمال، تلقى العلاج، لكنّ خطأ طبياً جعله يتعرض لعمل جراحي جديد، إذ كسر الفخذ من جديد وأعيد تجبيره. لم تكن تلك العملية نهاية آلامه، فقد كانت لديه خلال العملية مشكلة عصبية، وضرر في الشريان، وما هي إلا ساعات بعد وصوله إلى المستشفى حتى عاد إليه، ولم يتعافَ إلى اليوم، وحتى ساقه لن تعود إلى ما كانت عليه.

كان عبد الله يفتقد في فترة الحصار، خصوصاً عقب إصابته، أشقاءه الذين استطاعوا الخروج من البلدة بأعجوبة إلى لبنان، قبل إصابته بفترة قصيرة، تاركين والدتهم وعبد الله وشقيقهم الأصغر، مستبعدين أن يتعرض هؤلاء للخطر في حال اقتحم النظام المدينة. وفي الفترة نفسها، وصلهم خبر موت والدهم في المعتقل تحت التعذيب، ما جعل وضعه النفسي في غاية السوء. لا يذهب عبد الله إلى المدرسة، ويحتاج إلى مساعدة دائمة لقضاء حاجاته اليومية، والتنقل داخل المنزل. علاقاته محصورة ببعض أصدقائه الذين رافقوه في رحلة التهجير، والذين يزورنه دورياً، إذ يلعب معهم بعض الألعاب الإلكترونية.

أما أيهم برهان، من الزبداني، فقد أصيب بشظية إحدى القذائف في عينه، وبالرغم من نزفها كان لا يزال يرى بها خلال أيام حصار المدينة، وقد باءت بالفشل كل الجهود والمناشدات المطالبة بإخراجه من الحصار لحصوله على العلاج اللازم، إذ لم يستجب أحد للمناشدات الإنسانية. بعد فك الحصار الجزئي، أخرجه أهله بمساعدة من إحدى منظمات العمل المدني، إلى لبنان، وأجريت له عملية جراحية، لكن الوقت كان قد فات، استُئصلت فيها عينه ووضعت بدلاً منها عين زجاجية.




في حالة مشابهة، فقد الطفل جعفر (15 عاماً) عينه، بعدما كان يقف في موقف الباص مع أحد أصدقائه، وإذ بمقذوف مجهول المصدر يصيب وجهه بمنطقة قريبة من العين، فخسر نظره، وهو ما لم يتقبله، بل شكّل لديه عقدة كبيرة، وجعل وضعه النفسي وحياته اليومية في غاية السوء، وذلك بالتزامن مع غياب الرعاية الصحية والدعم النفسي اللازم والتجهيزات.

يشار إلى أنّ تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" لعام 2017، ذكر أنّ 3.3 ملايين طفل في سورية تعرّضوا للخطر بسبب التفجيرات، كما أنّ الأطفال الذين باتت لديهم إعاقات جسدية من جراء الحرب، لا يتلقون غالباً العلاج المناسب. وقد سُجل 1.5 مليون شخص ذي إعاقة. من جانبها، لا تملك وزارة الصحة في الحكومة المؤقتة معلومات عن عدد الأطفال ذوي الإعاقة بسبب الحرب. وتشير إلى أنّ في الشمال السوري مراكز علاج فيزيائي، وفي سرمدة وريف حلب الغربي مراكز أطراف صناعية لكنّها تقليدية ولا تملك تقنية الأطراف الذكية.