مسيرات الجزائريين... من العنف إلى "سلمية" صارخة

مسيرات الجزائريين... من العنف إلى "سلمية" صارخة

01 مارس 2019
لقطة من التظاهرات (فاروق باطيش/ الأناضول)
+ الخط -

أتت مسيرات الجزائريين يوم 22 فبراير/ شباط المنصرم لتخالف توقّعات كثيرين، فلم يتخللها عنف يؤدّي إلى "انزلاقات" كبعض البلدان العربية. تحاول "العربي الجديد" الوقوف على أسباب ذلك

منذ ما عُرف بـ"مسيرة الزيت والسكّر" في عام 2011 التي خرج خلالها عشرات الآلاف من المحتجّين على الغلاء في مدن جزائرية كثيرة، والتي تخللها تحطيم منشآت خاصة وعامة، لم يعرف الشارع الجزائري مسيرات شعبيّة حاشدة حول مطلب موحّد. كلّ المسيرات التي نُظّمت كانت مرتبطة بقطاع دون آخر، فكانت تحركات للأطباء أو الطلاب أو التربويين أو متقاعدي الجيش أو الأئمّة. وهي كانت تُواجَه عادة من قبل رجال الشرطة، وتُسجَّل خلالها اعتقالات وإصابات.

وتلك المواجهات والوقائع جعلت كثيرين يتخوّفون من الدعوة التي انتشرت في موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي، للتظاهر في كلّ المدن الجزائريّة في 22 فبراير/ شباط 2019، احتجاجاً على ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسيّة خامسة، على الرغم من مرضه الناجم عن جلطة دماغية أصيب بها في عام 2014. وفي السياق، يقول العمّ محمد بن شرقي لـ"العربي الجديد": "كنّا نتوقّع أن يُفرغ الشباب ما يمتازون به من عنف زائد على المؤسسات الخاصة والعامة، ويؤدّي ذلك إلى مشادّات بينهم وبين عناصر مكافحة الشغب، الأمر الذي يدفع إلى انزلاقات قد تعود بنا إلى مربّع العنف الذي عانينا منه في تسعينيات القرن العشرين".

يضيف العمّ بن شرقي، المتقاعد من سلك التربية والتعليم منذ سبعة أعوام، أنّ "تجربة التّسعينيات بما خلّفته من قتلى وجرحى ومعوّقين وحرائق ماديّة ومعنويّة خلقت ظاهرة اجتماعيّة من الممكن تسميتها: الخوف على الابن. لذلك، حاول آباء وأمهات كثيرو خلال الأيام التي سبقت تحرّك 22 فبراير/ شباط المنصرم إقناع أولادهم بالعدول عن المشاركة به، لكنّهم فشلوا في ذلك. وقد اضطرّ بعضهم إلى مرافقة الأبناء حتى يكون هؤلاء في مرمى نظرهم". ويردف: "علينا ألا ننسى أنّ الجيل الجديد ولد بعد محنة العشريّة السوداء ولم يكتوِ بنارها، بالتالي كان خوفنا من أن تتسبّب حماسته في إعادتنا إليها".

تحوّلات في التفكير والسلوك
صبيحة يوم الجمعة 22 فبراير/ شباط المنصرم، كان القلق والارتباك والحيرة واضحة على الملامح وفي العيون. فيوم الجمعة بالنسبة إلى الجزائريين "يوم ميت"، خصوصاً في الفترة التي تسبق الصلاة، نظراً إلى قلّة الحركة فيه... هو يوم عطلة وراحة. لكنّ إطلالة من شرفة أو خروجاً إلى الشارع يجعلان المرء يدرك أنّ ثمّة استثناءً. الشباب مستيقظون باكراً، إنهم المعروفون في مثل هذا اليوم بعبارة "الراس تحت الزّورة" أي "الرأس تحت الغطاء".




يوم الجمعة ذاك، لاحظت "العربي الجديد" في مدينة برج بوعريريج (200 كيلومتر إلى شرق الجزائر العاصمة) أنّ المقاهي قد امتلأت بالشباب الذين كانوا يتناقشون بهدوء حول المسيرة المقرّرة. كانوا يرشفون القهوة ويدخّنون السجائر، ويكثرون من مناداة بعضهم بعضاً بأسمائهم ومن التقاط صور "سيلفي"، ويتوجّهون إلى كلّ رجل أمن يدخل إلى المقهى لشراء قهوة بالتحيّة والتهليل، الأمر الذي دلّ مبكّراً على أنّ المسيرة سوف تكون سلميّة بخلاف المنتظر منها.

فجأة، صاح شاب عشرينيّ، طالباً من الحاضرين أن يصلّوا على النبيّ، وهي طريقة لدعوة الجزائريين إلى وقف الأحاديث المتداخلة والإنصات. قال: "لن نخرج لنطالب بإسقاط النظام، بل لنمنع العهدة الخامسة التي فرضوها علينا فرضاً كأنّنا غير موجودين... ولن نكسّر الأملاك العامة والخاصة، بل سوف نحافظ عليها قبل أن يفعل رجال الشرطة ذلك... ولن نعتدي على هؤلاء لفظيّاً ولا جسديّاً، بل سوف نعاملهم بصفتهم إخوة وشركاء لنا... ولن نعبّر عن انتماءاتنا الحزبيّة والأيديولوجيّة الضيّقة، بل عن انتمائنا الموحّد للجزائر".



كانت الأجواء مناسبة لينسلّ بعض الشباب من المقهى من دون تسديد ما يتوجّب عليهم لصاحبه، غير أنّ هؤلاء لم يفعلوا ذلك. ثمّة أشخاص منهم سبق لهم أن دخلوا السجن بسبب سرقات ارتكبوها، فما الذي جعلهم نزيهين؟ نقلنا المشهد إلى صديق يدرّس علم الاجتماع الثقافيّ، فقال إنّهم "في السياق الأوّل كانوا تحت ضغط واقع لا يُشعرهم بالعدالة الاجتماعيّة، فسعوا إلى افتكاك ما يعتقدون أنّها حقوق لهم بأنفسهم، وأسبغوا على الرشوة والسرقة مسمّيات ملطّفة تُعفيهم من تأنيب الضمير. وعلينا التنبه إلى معطى غير بائن، وهو أنّ هذا الجيل يملك ضميراً أكثر حياة من الأجيال السابقة، لأنّه لم يتورّط في النهب العام... هو لم يتولّ مسؤوليات عامة. أمّا في السياق الجديد، فيشعرون بأنّهم مقبلون على مسيرة يُطالبون فيها بالتغيير، ولا بدّ من أن يُطبّقوا ذلك على أنفسهم أوّلاً. لذلك لم يغتنموا فرصة الفوضى في المقهى ويتهرّبوا من تسديد فواتيرهم لصاحبه".




جيل العنف يخلق مفاجأة "السلمية"
تبيّن شهادات عدد من الأصدقاء في الواقع وفي العالم الافتراضي - فيسبوك هنا - أنّ النواة الأولى للمسيرات التي عمّت المحافظات الثماني والأربعين لم تكن تتجاوز 50 فرداً في البداية. ويقول المسرحي سليمان بن واري لـ"العربي الجديد" إنّ "عددنا لم يكن يتجاوز الثلاثين في قلب مدينة سطيف (300 كيلومتر إلى شرق الجزائر العاصمة) لكنّه ما إن قذفني رجال الشرطة في سيارتهم ورفعت عقيرتي بأغنية إخواني لا تنسوا الشهداء، حتّى تدفّق المئات من كلّ الأنحاء وشكّلوا مسيرة راحت تكبر كلّ خمس دقائق مثل كرة الثلج".

مثلما كان "فيسبوك" المنصّة الوحيدة التي ظهرت فيها وانتعشت الدعوة لمسيرات 22 فبراير/ شباط 2019، فقد تمّت مرافقتها عبر الموقع نفسه في أثناء حدوثها، في غياب تام للقنوات الفضائية، حكومية كانت أم مستقلّة. وراح الشباب يبثّون تسجيلات فيديو ترصد كثافتهم وسلميّتهم، وينشرون صوراً تداولها الجميع، مثل صورة شابات يوزّعنَ الورود على رجال الأمن، وصورة زجاجات المياه على الأرصفة، وصورة تنظيف ساحات التظاهر بعد انتهاء التحرّكات، وصور الشابات وهنّ واقفات إلى جانب الشبّان من غير أيّ حركة مخلّة بالأصول.



ينظر الجامعي والمدوّن عبد الفتاح بوشندوقة إلى هذا السلوك الحضاريّ والروح السلمية لدى الشباب الجزائريّ في مسيرات 22 فبراير/ شباط 2019 من زاوية أنّ "الجيل الجديد يدرك مسبقاً أنّ كل المنظومات في البلاد، بما فيها المنظومتان الاجتماعيّة والثقافيّة، أطلقت أحكاماً جاهزة عليه وكرّستها، منها أنّه جيل عنيف ومتهوّر. والمنظومتان في هذا متواطئتان مع المنظومة السياسيّة لقطع الطريق على هذا الجيل في مسعى رغبته في المشاركة في الحياة العامة". ويشرح لـ"العربي الجديد" فكرته، قائلاً إنّ "هذا الجيل كبر على عبارة أغلق فمك، في البيت والحومة والمدرسة والسياسة، بحجّة أنّه غير ناضج، فاستغلّ هذه المسيرات ليبيّن للكبار في كلّ المستويات أنّه عكس ذلك تماماً".

ولا ينكر بوشندوقة "دور عدد من الشخصيات العامة من فنّانين ونجوم مواقع التواصل الاجتماعيّ في بثّ روح المسؤوليّة والانضباط قبل المسيرات، من خلال النصائح التي وجّهتها عبر تلك المواقع". يضيف أنّه "في ظلّ استقالة نخب كلاسيكيّة في الثقافة والإعلام والسياسة وعدم مرافقتها مثل هذه التحرّكات الاجتماعيّة، تولّت الدورَ النخبةُ الجديدة التّي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعيّ. فهي تحوّلت إلى قوّة اقتراح وتغيير، وهذا ما يفسّر تشويش الحكومة على تدفّق الإنترنت قبل الحدث وفي أثنائه".




بغضّ النظر عن مدى تأثير ما حدث في سياق الانتخابات الرئاسيّة المزمع عقدها في 18 إبريل/ نيسان المقبل، فإنّ الإشارات التي أرسلها الشارع الجزائريّ خلال مسيرات 22 فبراير/ شباط سوف تعمل على خلق عتبات تغيير كثيرة في تعامله مع قضاياه العامة التي ظلّ مستقيلاً من الاهتمام بها لأسباب موضوعية كثيرة استغلتها النخب التقليديّة للإبقاء على الوضع الذي يخدم مصالحها وتوجّهاتها.