جون ضاحي.. رحلةُ دنماركية مع رسائل جدها السوري

جون ضاحي.. رحلةُ دنماركية مع رسائل جدها السوري

25 يوليو 2016
علمت أولادها الثلاثة الثقافة واللغة العربيتين (العربي الجديد)
+ الخط -
جون ضاحي ليست أستاذة جامعية اعتيادية في الدنمارك. تدرّس اللغة العربية، لغة أجدادها في جامعات البلاد، وتستعيد معها ذكريات والدها السوري، الذي لطالما حدثها عن جدها في المدينة القريبة من دمشق

"أمي الدنماركية إنغا، حملت بي عام 1958 في مدينة النبك السورية. ولدت في الدنمارك لأب سوري عام 1959. في طفولتي كنا نجلس لنستمع إلى أبي وهو يقرأ رسائل جدي إليه. لم تكن هناك هواتف أو وسائل تواصل. كان يترجم الرسالة من العربية إلى الدنماركية لنعرف ماذا يكتب له جدي من سورية. إنه درسي الأول في المشاعر واللغة". هكذا تصف الأستاذة الجامعية جون ضاحي، الدنماركية ــ النبكية، كما يحلو لها أن تصف نفسها، أيام وعيها الأول على الشق الآخر من هويتها.

كانت الوالدة الدنماركية إنغا تعيش في سورية منذ عام 1954، حين تعرفت إلى الشاب سهيل ضاحي في النبك، شمال دمشق في الطريق نحو حمص. تزوج الاثنان وأثمر الزواج ابنة بكر ولدت في سورية، سبقت جون التي ولدت في الدنمارك في جو ثقافي واجتماعي يختلف عن أجواء سورية.

هي وجدت نفسها بين ثقافتين: "والدي تعلم الدنماركية، لكنه لم يتقنها تماماً. كان يحاول أن يجعلنا نرتبط بالثقافة والتقاليد العربية لنتعرف إلى الجانب الآخر. الرسائل حين تصل من سورية، وتأخذ وقتاً طويلاً، أضحت هي مركز التواصل. وحينها كان يجمعنا والدي ليتلوها علينا بلغة دنماركية مترجمة كلمة كلمة، في جهد مكثف منه لكي نبقى على تواصل مع ذلك العالم. لقد سحرتني في طفولتي رسائل جدي، هي إرثي الكبير والثمين. تلك الرسائل أحتفظ بها حتى يومنا هذا، أعدت قراءتها فهي تحوي تاريخاً طويلاً سأنشره يوماً ما في كتاب خاص".


فلسطين الهوية
ارتبطت الطفلة الدنماركية جون بجدها السوري عاطفياً بشكل كبير: "كانت رسائله إلى أبي تحمل تفاصيل حياته ويومياته في منتصف وأواخر الستينات، يتحدث فيها عن بستانه وزراعته. كان وضعه الاجتماعي والمادي جيدين في النبك. كان يعيش بالقرب من المستشفى الدنماركي حيث تعمل أمي الصيدلانية، وحيث تعرفت على والدي في منتصف الخمسينيات. تلك الرسائل كانت تعني لي الكثير، فهي أثرت بي بشكل كبير، فحين كنا نجلس على المائدة كان أبي يقرأها بتفاصيل مترجمة".

تلك التفاصيل جعلتها تعيش بهوية مميزة: "تفتّح عقلي على بيت دنماركي وعربي وفي مجتمع غربي. في تلك الفترة كانت الدنمارك صديقة لإسرائيل وأنا كنت من بيئة أخرى مخالفة تماماً عن الجو العام.. بمعنى أنّك تشعر بحجم الأكاذيب. لحسن حظي أنّ والدتي، والإرسالية الدنماركية في النبك في خمسينيات القرن الماضي، حملوا أفكاراً أخرى مختلفة في فهم القضية الفلسطينية. أحد كتاب الخمسينيات والستينيات ألفريد نيلسن كان يكتب بطريقة متنورة وقريبة من عدالة القضية الفلسطينية. عشت بين ثقافتين متناقضتين تماماً: ثقافة تعيش أمنيات العدالة للقضية العربية، وأخرى، في الجو العام، تعيش صداقة متجذرة مع إسرائيل كدولة محتلة وظالمة. لهذا أجد نفسي محظوظة لامتلاكي جانبي العربي".

ارتادت جون المدارس الدنماركية. لم يوحِ شكلها أنّ دماً عربياً في عروقها: "لم أواجه بصراحة أي نوع من التمييز، على عكس أختي الكبيرة السمراء البشرة التي واجهت مضايقات". لكنها تضيف شيئا يشعرك أنّ هذه السيدة، التي تتحدث بلغة عربية سليمة مع "العربي الجديد"، ما زالت مهمومة بما كانت عليه خلال فترة المراهقة. وذلك حين تتحدث عن طفولتها وشبابها في بلد غربي، وهي تحمل نصفاً عربياً. فهي تركز من دون وعي على مكانة فلسطين في كلّ النقاش. تقول من دون سؤال عن ذلك: "فلسطين شكلت الهوية والوعي بالنسبة لي، فعلى الرغم من أنني من أم دنماركية وولدت هنا، إلاّ أنّ فلسطين بما حملته قضيتها من أهمية لدى أهل أبي وللناس الذين يفهمون الفرق بين العدل والظلم كانت لي في فترة المراهقة عنواناً للتمرد. دخلت في خلافات كثيرة مع محيطي، حتى في المدرسة كان المدرسون والمدرسات يرون أنّني مشاغبة. كانت الأجواء في أغلبها مؤيدة للمحتل الإسرائيلي. يسمّون الفلسطيني إرهابياً وأجد نفسي عكس التيار".

اللغة العربية
تعترف جون أنّ علاقتها بأبيها "تعززت بعد دراستي اللغة العربية، فقد كان أبي يتحدث الدنماركية في البيت لأنه أراد تعلمها. اللغة كانت مفتاحاً لفهم والدي وثقافته. كان يستخدم تراكيب لغوية لم أكن أفهمها لكنّني حين بدأت دراستها صرت أفهمه أكثر".

بعد إنهائها الثانوية العامة أرادت جون دراسة علم الاجتماع كأمنية أولى: "لكن في العام الذي أنهيت فيه الثانوية، كان المعدل المطلوب لدخول كلية علم الاجتماع مرتفعاً، فاخترت عوضاً عنه اللغات السامية. جمعت بين العربية والعبرية والآرامية". تعترف جون أنّ العربية كانت ساحرة ومشوقة: "حينها بدأت أفهم التركيبات اللغوية التي كان أبي سهيل يحاول ترجمتها لإفهامنا البعد الثقافي العربي. هو أيضاً كان مهموماً بقضاياه العربية وثقافته. اللغة بالنسبة لي كانت مدخلاً لتعزيز الجزء الآخر من هويتي الثقافية. كنت قادرة على النهل من العربية أكثر مما فعلت سابقاً".

أخذت جون اللغة العربية كـ"مسألة شخصية، لأنني كنت قريبة أيضاً من عائلة أبي، ولا بد من وجود لغة للتواصل معهم. كذلك، لم تكن هناك جالية عربية كبيرة في البلاد، لكننا كنا نعرف بعضنا البعض كسوريين موجودين بقلة في هذا البلد".

حين كانت طفلة، التقطت جون كلمات عربية في الستينات. تقول: "الإنسان حين يريد التعبير عن عواطفه، يبحث عن المفردات القريبة له، ومن الغريب أنني كصغيرة كنت ألتقط مفردات الغضب باللغة العربية لأنها كانت تعبر بالفعل عما في جانبي الآخر".

تعود جون في ذاكرتها إلى اجتياح إسرائيل الأول للبنان عام 1978، كصبية تحمل أيضاً ذلك الجزء العروبي، لتتحدث عن الأمر بتفاصيل تبدو كأنّها حدثت أمس بالنسبة لها: "الجو العام كان مؤيداً لإسرائيل. كانت الأخبار تتدفق ونتفاعل معها. بعدها بعامين بدأت الحرب العراقية - الإيرانية. صار عندي إصرار آخر على الإقدام أكثر نحو العربية لأنني أردت الاطلاع على تفاصيل لا يذكرها الإعلام هنا. شكلت الانتفاضة الأولى عام 1987 نقطة تحول كبيرة في حياتي. كنت قد تزوجت من فلسطيني هو فتحي المصري عام 1984. بدأت أشعر بالمعنى الحقيقي لأن يكون المرء فلسطينياً. كان من لبنان وانتقل أهله إلى الأردن. زرت أهله وتعمقت أكثر لفهم قضية اللاجئين وعدالة قضية الشعب الفلسطيني. لقد وضعتني العلاقة مع عائلة فتحي في عالم آخر. كيف يعيش هؤلاء في لبنان؟ وكيف يذكرهم وضعهم دائماً بفلسطينيتهم؟ جاءت الانتفاضة لتعيدني إلى الأخبار وتسلحني بها أمام محيطي".

كلما تحدثنا عن جون الدنماركية- السورية الصغيرة والشابة تجد فلسطين تقفز في المركز. حتى في اختيار دراسة اللغة العربية: "تفاصيل الحياة وزواجي وخلفيتي جذرت هذه المسألة بطريقة أو أخرى.." تضحك جون وهي تشرح لماذا فلسطين دائما حاضرة. تقول: "لم تشكل لي الحياة في الدنمارك أي شعور بأني مختلفة عن الدنماركيين إلاّ حين يحضر النقاش عن فلسطين. حتى في المدرسة كان موضوع الإنشاء في سن الخامسة عشرة عن فلسطين، فاختلفت مع زملائي وزميلاتي ومدرّسي. الثقافة العربية تعززت لديّ بعدما وجدت نفسي مهاجرة مع زوجي فتحي إلى الجزائر، ثم أمضيت عاماً كاملاً في الأردن".

أكاديمية ومترجمة
كان من الصعب إيجاد من يتقن اللغتين في الدنمارك حين كانت السيدة جون تتقنهما. أصبحت معروفة ومطلوبة في بلديات كوبنهاغن كمترجمة في بداية التسعينيات، وفي مكتباتها العامة لتصنيف الكتب العربية المتوفرة.

تعمل جون ضاحي اليوم أستاذة للغة العربية في جامعة كوبنهاغن. هي واحدة من أوائل من عملوا على نشر تدريس العربية في الدنمارك. تعلق: "أصبحت اللغة العربية اليوم تدرس بشكل واسع، وبعد عام من تخرجي بتّ مدرسة في الجامعة. أغنت عربيتي ترجمتي لرواية نجيب محفوظ خان الخليلي عام 1988".

تعمل في التدريس منذ 13 عاماً، وتتولى مهام مراقبة خارجية لامتحانات اللغة العربية في جامعات الدنمارك. كذلك، تعمل في ترجمة أعمال أدبية عربية ودنماركية في الاتجاهين.
عن الطلاب الذين تدرّسهم، تقول: "كثير من الدنماركيين، يأتي بعضهم من كليات أخرى، كطلاب الديانات مثلاً. بات الإقبال على اللغة العربية بعد عشر سنوات من تدريسها في الجامعات مماثلاً للإقبال على الفرنسية والألمانية والإنكليزية في هذا البلد. العربية في جامعة كوبنهاغن تعليمها أوسع من تعليم الفرنسية والألمانية، و80 في المائة من الطلاب هم دنماركيون".

وعن تأثير اللغة العربية على ثقافة الطلاب الغربيين تقول جون: "يصبح لديهم نظرة واقعية للثقافة العربية، فيتعرفون عن كثب على الثقافة والوجه الإنساني. الدراسة الجامعية في الناحية الأكاديمية تعطي هؤلاء نظرة إلى الآداب والنواحي الاجتماعية، فالطلاب العرب يستفيدون أكاديمياً ونقدم إليهم فرصة لمقاربات أخرى في الحياة الأكاديمية ما يخلق زمالة جيدة وأجواء نحافظ عليها. وهذا يؤدي أيضاً إلى تغيير في النظرة الغربية لدى الطلاب، خصوصاً حين يسافرون إلى بلد عربي بهدف الاطلاع على الحياة العربية. بالطبع يصطدم هؤلاء بأنظمة اجتماعية مختلفة، لكنّهم يشعرون بحب للغة العربية، ثم يعودون ليكتشفوا كم هي ظالمة العنصرية في بلدهم. اللغة العربية تؤثر إيجاباً على الطلاب الغربيين وطريقة تفكيرهم وعلاقتهم بالعرب".

للأستاذة جون نقدها لسياسة الدنمارك تجاه اللاجئين والتغييرات الأخيرة: "شخصياً أتأثر من تخويف اللاجئين من المجيء عبر نشر إعلانات في هذا الخصوص. هذا ظلم لمن يهربون من مجتمع مدمّر.. وهو يمس شيئاً أساسياً في بنية مجتمعنا الدنماركي. الدنمارك أفضل بكثير مما يعرضه السياسيون في سياستهم. هم للأسف يشوّهون صورة الدنمارك، فالعنصرية تزداد، ومعارضو العنصرية أيضاً يزدادون مما يخلق استقطاباً حاداً، وهو ما سيزيد العنف. العنف ليس شرطاً أن يكون جسدياً، فأنت حين تقول للناس: سأخفض المعونة لتعيشوا فقراً لكي تهربوا من بلدنا مع مقترحات تعزل أبناء اللاجئين، فذلك كله عنف مبطن بظلم كبير".

حين يحضر السؤال السوري، تتنهد جون بعمق، وتتحدث عن ذلك البلد الذي عرفته بكثير من الحزن: "ما زال بعض أهلي في سورية. أشعر بفراغ كبير، فأنا غير قادرة على التعبير. هي مأساة حقيقية.. الفكر منشغل دائماً بكيفية بناء هذا المجتمع بعد كلّ ما يجري".

تعيش الأستاذة جون ضاحي بالرغم من كلّ المآسي بعد وفاة والدها ووالدتها وجدها، بانسجام كبير مع نفسها. علمت أولادها الثلاثة الثقافة واللغة العربيتين. لا ترى مشكلة كبيرة بين دنماركيتها وعربيتها، وهي تحث الجميع على "أن يعيشوا هذا الانسجام" الذي يمكن أن يخفف الكثير من وطأة الغربة.

المساهمون