يهود السودان... الدولة المدنية لا تستثني أحداً

يهود السودان... الدولة المدنية لا تستثني أحداً

27 سبتمبر 2019
للدولة المدنية التي تحترم جميع الأديان والأعراق(أندريس رونكيني/ Getty)
+ الخط -

فتحت دعوة وجهها الصادق المهدي، زعيم طائفة الأنصار في السودان، ومن بعده نصر الدين مفرح، وزير الشؤون الدينية، للأقلية اليهودية للعودة إلى البلاد للتمتع بحقوق المواطنة، الباب أمام استرجاع تاريخ اليهود في السودان وهجرتهم منه

منصور إسحق إسرائيل (73 عاماً)، طبيب صيدلاني، يعتز بنسبه لأسرة يهودية هاجرت منذ سنوات بعيدة إلى السودان، كما يعتز بأنّه مواطن سوداني يخلص لوطنه ولدينه الإسلام، عدا عن اعتزازه بنسب آخر يجمعه بقبيلة الدينكا في جنوب السودان.

قدّر عدد يهود السودان في أزمنة سابقة بنحو ألفي شخص عاشوا في الخرطوم ومدني وبورتسودان ومروي ومدن سودانية أخرى، لكنّهم منذ نكبة فلسطين عام 1948، وخصوصاً منذ نكسة 1967، وتغير نظرة المجتمع إليهم بدأوا هجرة عكسية إلى دول عديدة، منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأراضي الفلسطينية المحتلة. وبلغت الهجرة مبلغاً كبيراً بعد مجيء حكومة الرئيس الأسبق جعفر النميري، الذي أعلن عام 1983 أحكام الشريعة الإسلامية، ثم ازدادت بعد سيطرة نظام الرئيس المعزول عمر البشير على الحكم في 1989، حتى لم يبق منهم غير منصور وبعض من هم في حالته ممن بدّلوا ديانتهم.




أنهى منصور إسحق إسرائيل المدرسة في أم درمان، غربي الخرطوم، ثم في كلية الصيدلة بجامعة "الخرطوم". يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ هجرة اليهود إلى السودان قديمة جداً، وطوال استقرارهم كانت لهم مساهمات واسعة في المجتمع، إذ برز منهم الأطباء والمهندسون وموظفو المصارف، عدا عن اهتمامهم الأكبر بتجارة الجلود. يشير إلى أنّ اليهود بدأوا مغادرة البلاد منذ عام 1967، ثم ضاقت بهم الأحوال في نظامي النميري والبشير، إذ صودرت ممتلكاتهم وأموالهم، فبات استمرارهم في البلاد مغامرة غير محمودة العواقب.

أما عن سر بقائه في السودان، فيرد بغضب أنّه مواطن سوداني بسيط يعتز بوطنيته وجذوره السودانية ولا يمكن له أن يغادر أرض أجداده، ومنهم كما يذكر، محمد عبد الرحيم، أحد أبرز المؤرخين السودانيين، بمثل ما يفتخر بوالده إسحق إسرائيل المهندس، الذي يقول إنّه بنى السودان. يتابع أنّ أشهر الأسر اليهودية في السودان هي أسرة سليمان بسيوني وسيزار ليفي، وإسرائيل داؤود، وباروخ، وسيخون، مؤكداً أنّ اليهود عاشوا في الماضي في مناخات تسامح كبير مع المسلمين والمسيحيين واللادينيين إلى حدّ أنّه يتذكر تماماً وهو طفل، كيف كانت تحتفل بعض الأسر اليهودية بعيد الأضحى بذبح خروف مثلما يفعل المسلمون. يوضح أنّه شخصياً عاش حياة عادية في العهود السابقة من دون تمييز أو نظرة سلبية من المجتمع لاسمه، لكن، بدأ كلّ شيء يتغير في ظلّ نظام البشير، الذي يقول إنّه اعتقله وعذبه مع آخرين، لكنّ تعذيبه كان أفظع من غيره، لأنّه "كان مصحوباً بإساءات عنصرية من رموز النظام التي صعدت لاحقاً إلى مراكز متقدمة في السلطة". يوضح أنّ اسمه إسرائيل، تسبب له بمتاعب عدة أيضاً، مستشهداً بحادثة وقعت حينما أراد استخراج جواز سفر، إذ صعقته ضابطة شرطة بعبارة "عميل يهودي".

يتمنى إسرائيل أن يأتي اليوم الذي يتمكن مع بقية أقاربه من اليهود الذين انقطعت اتصالاته بهم منذ هجرتهم إلى بلاد الغرب، من الاجتماع مجدداً في السودان. لكنّه يستبعد استجابة يهود السودان للدعوة التي صدرت من زعيم حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، لليهود للعودة، ومن بعده من وزير الشؤون الدينية الجديد، نصر الدين مفرح، الذي قال في تصريحات صحافية أخيراً، إنّ السودان بلد متعدد في كلّ شيء بما في ذلك التعدد الديني، وذكر الوزير أنّ الأقلية اليهودية فارقت البلاد منذ سنوات، داعياً أبناءها إلى العودة والحصول على الجنسية والمواطنة بعد قيام الدولة المدنية التي ستصبح فيها المواطنة أساس الحقوق والواجبات. وأضاف الوزير أنّ قضية التسامح الديني بين المذاهب الفكرية والمجموعات المختلفة قضية مهمة ستبقى من أولويات الحكومة الجديدة. لكنّ منصور إسحق إسرائيل يقول إنّ مثل هذا الحديث غير مقنع ولا يمكن أن تكتمل أركان التسامح الديني إلّا بتصفية الدولة العميقة التي أسس لها نظام البشير، والتي ما زالت تحكم عبر رئيس ونائب رئيس مجلس السيادة، كلّ من عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو.

من جهته، رد مبارك أردول، وهو متحدث رسمي سابق في الحركة الشعبية، على دعوة اليهود للعودة إلى البلاد برسالة مفتوحة للوزير، جاء فيها أنّ إرساء قيم التسامح لن تتم إلا بردّ المظالم وإرجاع الممتلكات التي اقتلعتها أجهزة قمع النظام السابق من عدد من الطوائف الدينية، مشدداً على ضرورة تسليم تلك الممتلكات والمقرات لأهلها بما في ذلك دور العبادة.

أما الصحافي مصطفي سري، فيستبعد في حديث إلى "العربي الجديد"، عودة اليهود إلى السودان لجملة أسباب، أهمها أنّ الموجودين منهم في بلاد الغرب يمثلون الجيل الرابع، وبعضهم لم يعش أصلاً في السودان الذي عاش فيه آباؤهم وأجدادهم. يضيف سري أنّ انقلاب الحركة الإسلامية عام 1989 الذي نفذه الرئيس المخلوع عمر البشير، كان ذا حمولة أيديولوجية إسلامية، وأعلن عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما دفع إلى هجرة ثانية هي الأكبر في تاريخ السودان لم تقتصر على أصحاب الديانات الأخرى من مسيحية ويهودية، بل إنّ أعداداً كبيرة من المسلمين هاجرت بسبب الاضطهاد: "حتى على مستوى المذاهب الدينية والطوائف، مثل زعيمي طائفتي الختمية (فرقة صوفية)، محمد عثمان الميرغني، والأنصار (طائفة تؤمن بالاجتهاد والتجديد والجهاد والإمامة)، الصادق المهدي". يوضح أنّ اليهود في السودان يعود عهدهم إلى تاريخ قديم جداً ما قبل الدولة السودانية الحديثة، وكانت مجموعاتهم تسكن في مناطق مختلفة في الشمال والشرق والوسط، وهناك أسر كبيرة ما زالت موجودة، لكنّها دخلت إلى الإسلام، مبيناً أنّه كان لليهود في السودان معبدهم المعروف ومقابرهم، وقد عمل عدد كبير منهم في مواقع مختلفة إلى جانب شركاتهم الخاصة. يشير إلى أنّ بعض يهود السودان أصبحوا لاحقاً سفراء لإسرائيل. يضيف أنّ لليهود مساهمات في الاقتصاد السوداني والحياة المجتمعية، وأكثرهم عاش في مدينتي الخرطوم وأم درمان، وكانت لهم حارة باسمهم في أم درمان هي حي اليهود. يتابع أنّ اليهود كانوا في أيام الحكم التركي المصري وأنّهم بعد انتصار الثورة المهدية (1899)، هاجروا إلى مصر ثم عادوا مع الجيش الإنكليزي، وبقوا في السودان، لكنّ بعضاً منهم غادر بعد حرب فلسطين 1948 وبعضاً آخر بعد حرب 1967.




أما الشيخ أزهري النجار، زعيم حركة البركة، وهي جماعة دينية، فيبدي اعتراضه على دعوة اليهود للعودة، ويعتبرها مجرد كلام، وخطوة غير محسوبة، لأنّ أركان الدولة المدنية لم تكتمل أساساً، بحسب تقديره. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّه ليست هناك مشكلة بين المسلمين واليهود على مستوى التعايش، وأنّ هجرة اليهود كانت بسبب عدم الاستقرار السياسي، وضعف الأمن، وتدهور الأوضاع المعيشية، ولن يعود اليهود في ظلّ استمرار هذه الأوضاع.