مشرّدو باريس.. سكان الشارع يعيشون فيه مرغمين

مشرّدو باريس.. سكان الشارع يعيشون فيه مرغمين

09 فبراير 2017
تتسوّل مع أرنبها الأليف (العربي الجديد)
+ الخط -
في كلّ سنة، تُصدر "مؤسسة آبيه بيار لإسكان الفقراء" تقريراً عن أوضاع فرنسا المتعلقة بالمشرّدين والذين لا يمتلكون سكناً لائقاً. وقد حظيت هذه السنة بأهمية خاصة، إذ هي سنة انتخابات، الأمر الذي دفع المؤسسة إلى مساءلة السياسيين الفرنسيين وطلب اقتراح حلول ملموسة للخروج من أزمة السكن التي تمسّ نحو 15 مليون شخص في فرنسا. تجدر الإشارة إلى أنّ آبيه بيار أو القسّ بيار (توفي في 22 يناير/ كانون الثاني 2007) كان قد كرّس حياته بدءاً من عام 1954 لمساعدة الفقراء والمشرّدين، فأسس حركة "إيمايوس" - من أجل المعوزين ومعهم - وهي منظمة علمانية لمكافحة الإقصاء. وقد نقلت الحركة تجربتها وخبراتها إلى بلدان عدّة منها لبنان والمغرب والجزائر والهند والأرجنتين وغيرها.

يبيّن التقرير الجديد لمؤسسة آبيه بيار أنّ كلّ المؤشرات تكشف عن ازدياد في عدد المشرّدين ما بين عام 2001 وعام 2012 بنسبة 50 في المائة، فيما ارتفعت نسبة الإخلاء والطرد 33 في المائة ما بين عام 2006 وعام 2015. ويوضح التقرير أنّه "منذ بداية الألفية الثانية، تسبّب ارتفاع أسعار العقارات إلى جانب إفقار قسم كبير من السكان، في جعل الوصول إلى سكن لائق من المستحيلات". والنتيجة المقلقة هي أنّ "عدداً متزايداً من الفرنسيين يُضطرّ إلى التخلي عن قسم من مصاريفه، كالصحة والتدفئة، ليتمكن من تسديد إيجار سكنه". وقد دفع ذلك بنحو ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص إلى الاعتراف بأنّهم يعيشون في البرد في بيوتهم. وكانت النسبة قد ارتفعت إلى 72 في المائة ما بين عام 1996 وعام 2013. كذلك، يكشف التقرير أنّ نحو ستة ملايين شخص (5.7 ملايين تحديداً) بمجرّد أن يسددوا ثمن الإيجار، يجدون أنفسهم في مستوى دون عتبة الفقر.

إلى ذلك، يفيد "مركز الدراسات الوبائية حول الأسباب الطبية للوفاة" بأنّ نحو ألفَين و838 مشرّداً لقوا حتفهم في الشارع في عام 2015 في فرنسا، وألفَين و908 مشرّدين في عام 2014. واللافت أنّ معدّل أعمار الموتى من المشرّدين لا يتجاوز التاسعة والأربعين، بحسب بيانات جمعية "ليه مور دو لا رو" (موتى الشارع) إحدى أكثر الجمعيات نشاطاً في هذا المجال. تجدر الإشارة إلى أنّ معدّل أعمار الفرنسيين تقترب من سنّ التاسعة والسبعين.

وتهدف الجمعية إلى التعريف بموت كثيرين من الذين عاشوا في الشارع، وإلى تطوير وسائل ضرورية للعمل من أجل البحث والتفكير وإدانة الأسباب العنيفة لموتى الشارع. كذلك تنظّم الجمعية مراسم دفن لائقة لهؤلاء وترافق الأشخاص المحزونين، من دون تمييز اجتماعي أو عرقي أو سياسي أو ديني. يُذكر أنّها تعمل بالتنسيق مع منظمات كثيرة منها "الإدارة العامة للتماسك الاجتماعي" ومؤسسة "كاريتاس" و"مؤسسة آبيه بيار".



لأنّ قضيّة المشردين حسّاسة، ولأنّ المواطنين يرون بأعينهم أناساً يموتون وجثثاً متجمدة أمام بناياتهم، تكثر الجهات التي تهتم بشؤون هؤلاء، من منظمات محلية أو دولية أو غيرها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر "أرميه دو سالو" (جيش الخلاص) و"أون شوربا بور توس" (حساء للجميع) و"لا سيماد" و"الصليب الأحمر" و"أطباء العالم" و"ليه ريستو دو كور" (مطاعم القلب) التي أسّسها الفنان الفكاهي الراحل كولوش، بالإضافة إلى "سامو سوسيال" الحكومية و"الإغاثة المسيحية" و"الإغاثة الإسلامية" وبلدية باريس.



ظهور هذه الجمعيات كلها غير قادر على الإحاطة بكل الحالات، فباريس مدينة كبيرة وتعرف تنوعاً لجهة السكان والبنى التحتية. من النادر رؤية مشرّدين في الأحياء الباريسية الراقية والسياحية، لكنّ هؤلاء يتكدسون في دوائر باريس الفقيرة، لا سيّما الثامنة عشر والتاسعة عشر وبعض أحياء المقاطعة الحادية عشرة. بالتالي، لم يكن مفاجئاً أن آلافاً من المهاجرين استوطنوا تلك المناطق وناموا تحت جسورها قبل أن يُنقلوا إلى أماكن توجيه ومراكز إيواء. ولا تقدّم السلطات المختصة ولا المراكز البحثية بيانات محدّدة حول هؤلاء الذين يتجاوزون 141 ألف شخص في فرنسا، معظمهم في باريس وضواحيها. في عام 2012، كانوا في حدود 28 ألف شخص في العاصمة.



وهؤلاء المشرّدون، يمكن العثور على نصفهم تقريباً في غرف فنادق متواضعة أو مساكن تديرها جمعيات، فيما ينتشر الباقون في الشوارع، تحت الجسور وفي محطات المترو الدافئة، خصوصاً التي تبقى مفتوحة طول الليل. لكنّ ظروفهم تختلف. تسأل الواحد منهم عن سبب هذا السقوط الاجتماعي، فيتحدث عن انفصال عائلي أو طلاق، أو عن طرد وتسريح من الشغل جعله عاجزاً عن دفع إيجار المنزل، أو عن عدم دعم العائلة... إلى هؤلاء، ثمّة مهاجرون غير شرعيين كثر، أو أصبح وجودهم في البلاد غير قانوني لعدم تجديدهم أوراقهم، وهم من العرب والأفارقة والآسيويين.

مارتين من هؤلاء المشرّدين، وهي فرنسية فقدت عملها وتخلّى شريكها عنها فوجدت نفسها في الشارع. على جسر سان ميشال (على نهر السين)، تتسوّل مع أرنبها الأليف، وتنام في محطة المترو القريبة. أمّا المشرّد الهندي الذي يجلس عند مخرج مترو سان ميشيل، فهو يتوسّل كلّ الخارجين من المترو لعلّهم يشفقون على حاله. يخبر "العربي الجديد" أنّه رفض الانتقال إلى غرفة في فندق بناءً على إلحاح الجمعيات، "لأنّني أتعرّض لعنف مشرّدين آخرين هناك. كذلك، يطلبون منّي الافتراق عن حيواناتي، وهذا ما لا أقبله".

من جهتهم، كثيرون من الذين يستوطنون محطة مترو مونتروي، يرفضون مغادرته والانتقال إلى غرف فنادق، ولو أنّها أفضل من الجهتَين الصحية والغذائية. هم يرفضون الافتراق عن بعضهم بعضاً، والابتعاد عن كلابهم. لكلّ واحد من هؤلاء قصته، ونبيل - المغربي - واحد منهم. يخبر أنّه يعرف كلّ مساجد باريس وضواحيها. "في كلّ واحد منها، أحاول استعطاف المصلين، على أمل مساعدتي في العودة إلى بلادي. بعدها أشتري نبيذاً ومخدّرات، وأبحث عن مسجد آخر. قد أُضطرّ إلى الرحيل عن المدينة، والبحث عن مساجد أخرى ومتصدقين آخرين".

ولكي نكون منصفين، الأمر ليس قاتماً إلى هذا الحدّ. بفضل الدعم الذي تقدّمه بعض الجمعيات، ينجح بعض هؤلاء في الخروج من هذا الجحيم. يقول أحدهم: "عشت المرّ والتسول والشارع، ليس فقط في الخريف والشتاء بل في قيظ الصيف كذلك. للتخلّص من كلّ هذا، لا بدّ من امتلاك إرادة فولاذية". لعلّ هذا ما ينقص الكثيرين.