ملايين الساعات.. هكذا يطول انتظار الطبيب في كندا

ملايين الساعات.. هكذا يطول انتظار الطبيب في كندا

17 أكتوبر 2016
أخيراً، حان دوره (أولي سكارف/ فرانس برس)
+ الخط -

الانتظار في غرف طوارئ المستشفيات الكندية العامة من أصعب التجارب التي يمكن اختبارها في مرفق عام. ويتدهور الوضع خصوصاً في مقاطعة كيبك، حيث تُهدر ملايين الساعات سنوياً نتيجة سوء الإدارة.

تحمل لوحات السيارات في مقاطعة كيبك الكندية عبارة تاريخية شهيرة بالفرنسية ترجمتها "أنا أتذكّر"، شعار هذه الرقعة الفرنسية الوحيدة في أميركا الشمالية. ومنذ اعتماده في القرن التاسع عشر، يُعدّ هذا الشعار تأمّلاً في إنجازات الرجال الذين أسّسوا هذه البلاد. من بين هؤلاء السياسيون وفي مقدّمتهم جاك كارتييه، والعسكريون من أمثال لوي دو فرونتناك.

ويجد بعض رجال السياسة في هذا العصر صعوبة في التغنّي بالتاريخ، عندما تعاني المقاطعة من مصاعب اجتماعية "سوريالية" كتلك التي يعرفها القطاع الصحي. ضعف الإنتاجية في تأمين خدمات صحية محترمة وإنسانية وفعالة، يؤدّي إلى مؤشّرات كارثية. وقد دعا أخيراً النائب في ائتلاف مستقبل كيبك، فرانسوا بارادي، إلى تبديل الشعار الشهير الذي ترفعه المقاطعة من "أنا أتذكّر" إلى "أنا أنتظر"، وذلك في إشارة إلى الطوابير الطويلة في أقسام الطوارئ في المستشفيات.

جاء هذا الموقف الساخر تعليقاً على دراسة أُجريت بتكليف من مفوّض الشؤون الصحية في المقاطعة، حملت عنوان "التعلّم من الأفضل: دراسة مقارنة لأداء غرف الطوارئ في كيبك"، وخلصت إلى أنّ نسبة الأشخاص الذين يُضطرون إلى الانتظار لأكثر من خمس ساعات قبل أن يحين دورهم في غرف الطوارئ هي نحو 35%، وهي النسبة الأعلى بين المقاطعات الكندية كافة. في أونتاريو على سبيل المثال، حيث العاصمة الاقتصادية تورونتو، تبلغ النسبة 15% فقط. وإذا أردنا المقارنة مع العالم، يظهر الفرق أكبر. في ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، يهبط المعدّل إلى 5%، وفي سويسرا بالكاد يصل إلى 2%.

قد يفاجأ المراقب الخارجي أو الطامح إلى الاستقرار في هذه المقاطعة - وفي كندا عموماً - بهذه المعطيات، لكنّ ترهّل قطاع الصحة بالنسبة إلى مواطنيها هو خبر عادي تماماً كما هي أخبار انقطاع التيار الكهربائي بالنسبة إلى قاطني أطراف "دول متعثّرة" مثل لبنان.

عبثية الانتظار

خلال مرافقة أحد الأصدقاء إلى غرفة طوارئ أحد المستشفيات في ساعات فجرٍ لم يكن شتوياً لحسن الحظ، اتّضحت الصورة تماماً. الدخول إلى مستشفى "نوتر دام" في مونتريال، يُذكّر بمختبرات مهملة أو بمرافق صحية مترهلة في دول متعثّرة. قاعة الانتظار تعجّ بالمرضى، أكثر من 25 شخصاً من فئات عمرية مختلفة ينتشرون في المكان، وتختلف مدد انتظارهم. الأوجاع القاسية التي كان يشعر بها الصديق، لم تسمح له سوى بالخضوع إلى فحص لضغط الدم وقياس للحرارة، لتبدأ ساعات انتظار طويلة. الوصول كان في الساعة الثالثة فجراً، أمّا الانتظار فدام حتى الساعة العاشرة صباحاً، قبل أن يعاينه الطبيب ويُجري الفحوص والصور اللازمة.

قريباً، ينتقل هذا المستشفى إلى مقرّه الجديد، وهو مركز هائل من المتوقّع أن يكون واحداً من أهم المراكز الاستشفائية في أميركا الشمالية، إذ يجمع تحت قبّة واحدة الفرق الطبية والمرضى من مستشفيات "أوتيل ديو" و"نوتر دام" و"سان لوك". لكنّ كثرين يشكّكون بالقدرة على تحسين الخدمة في ظلّ نظام الإدارة الصحية القائم. فالوعد الذي أطلقته وزارة الصحة قبل عامَين بتأمين طبيب واحد لكلّ عائلة ابتداءً من عام 2017 عبر ترشيق القطاع، يبدو خيالياً. حالياً، وعوضاً عن جذب الأطباء تتبنّى المقاطعة سياسات تُنفّرهم منها.

يستعدّ كريم لتوضيب أغراضه ومغادرة كيبك بهدف الاستقرار في مقاطعة كولومبيا البريطانية غرباً. لكنّ فانكوفر، مدينتها الدافئة التي يرغب فيها الجميع من سكّان الشمال البارد وصولاً إلى أغنياء الصين، لن تكون وجهته النهائية. فهو سوف ينتقل إلى قرية تبعد أربع ساعات لكي يمارس عمله الطبي. يُذكر أنّه ليس في منظمة "أطباء بلاد حدود"، ولا مقصده رقعة من العالم الثالث مزروعة في كندا. يقول: "شحنت سيارتي وأغراضي الأساسية، وأستعد للانتقال إلى الغرب، رغم أنّني أحب مونتريال وأصدقائي جميعهم هنا". يضيف: "عانيت كثيراً في التدرّج. ورغم كلّ الصعوبات والوقت، لم أنل شرف تصنيفي طبيباً ممارساً".

قد يظنّ المرء أن نظام غربلة الأطباء لانتقاء الأجدر من بينهم، هو دليل فاعلية إدارية يُفترض أن تضع النظام الصحي في المقاطعة في مصاف الأهم في العالم. لكن للأسف، الوضع هو نقيض ذلك تماماً. بحسب دراسة حديثة أعدّتها "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، شملت 11 بلداً غنياً، حلّت كندا أخيرة، بحسب مؤشّرات الرعاية الصحية، وبتفاوت واضح بين مقاطعاتها. وفيما أعرب 50% من سكان أونتاريو عن رضاهم عن الخدمة الصحية، انخفضت النسبة إلى 23% في كيبك.

ثمّة مشكلة حقيقية في كيبك. خلال العام الماضي، قضى المرضى فيها 13 مليون ساعة انتظار إضافية في غرف طوارئ المستشفيات. ساعات الانتظار العبثية التي عادة ما تكون موسومة بالألم والحيرة والقلق، تنجم عن تخطّي 1.5 مليون دخول إلى الطوارئ مدّة الانتظار القصوى التي حدّدها وزير الصحّة.




عيادات خارقة

وفقاً لتقرير نشره "معهد مونتريال للأبحاث الاقتصادية"، يبدو أنّ السلطة تقوم بكلّ ما في وسعها لتأخير القطاع وليس لتقدّمه. على سبيل المثال، يُثبت نظام "العيادات الخارقة" الذي أطلقته وزارة الصحة أخيراً أنّه خطوة فاشلة أخرى، ويتعرّض إلى انتقادات كثيرة، إذ يتمحور حول دور الأطباء الذين ترتفع كلفتهم وينقص توفّرهم.

"تُصرّ الحكومة على الحفاظ على نظام غير مرن، قائم على نموذج المعاينة من قبل الأطباء عوضاً عن السماح بازدهار الحلول المبتكرة"، بحسب التقرير. ومن بين تلك الحلول اعتماد عيادات "الممرّضين المختصّين" التي من شأنها تأمين الخدمة الصحية الأساسية بكلفة معقولة على المال العام وبمعدلات انتظار أكثر منطقية. فالبدل لقاء خدمة الممرض المختص بالكاد يعادل ثلث بدل الطبيب، ورغم ذلك لا تجد إلا 294 ممرضاً متخصصاً في كيبك بالمقارنة مع ألفَين و134 في أونتاريو. والمقاطعة المجاورة تضمّ 25 عيادة من هذا النوع، فيما النظام الصحي في كيبك لم يطوّر حتى واحدة.

من جهتها، فإنّ مبادرة القطاع الخاص في العيادات العامة التي تقضي بتسهيل شؤون المواطنين عبر نظام تنظيم الأدوار - كما في المصارف - يقوم على التنبيه الإلكتروني عبر الهواتف لقاء دولارَين لكلّ حجز دور، يقع في فخّ ثقافة التكاسل التي تسيطر على العيادات.

لا تخفى على أحد هالة الحماية الخارقة التي يتمتّع بها نادي الأطباء الخريجين في كيبك، والتي تغذّيها إجراءات بيروقراطية ترعى معادلة الشهادات وقوننة الاختصاصات. نتيجة احتكار المهنة هذا، تُلحظ دوماً ممارسات لا تتوافق مع القانون ومع الإجراءات المرعية. مثلاً، على الرغم من أنّ كيبك وقّعت مع فرنسا في عام 2008 مذكّرة تفاهم لتسهيل دمج الأطباء في القطاع الصحي في البلدَين، إلا أنّ كلّ ما يجده الأطباء الفرنسيون هو العرقلة في كندا. من بين دفعة تضمّ 348 طبيباً قدّموا طلبات رخصة للعمل على الأراضي الكندية الفرنسية، رُفض أكثر من 55% منهم في إطار عملية تصفية وتدقيق امتدت لفترة عامَين فيما لا يُفترض أن تتجاوز ستة أشهر. وقد كُشف أخيراً عن هذا الأمر، بعدما كانت "هيئة الإذاعة الرسمية الكندية" قد بثّت تحقيقاً يوضح أنّ كليات الطب في كيبك ترفض الأطباء الأجانب المؤهلين وأصحاب الشهادات المعترف بها، وذلك رغم الحاجة إليهم ورغم شغور مواقع ووظائف كثيرة.

صحيح أنّ الأبواب أوصدت أمام الأطباء الجدد، إلا أنّ عدد الأطباء لكلّ ألف نسمة هو نفسه بين أونتاريو وكيبك ويقترب من المعدلات العالمية. وهذا يعني سوء استخدام حقيقي للموارد داخل "الحدود الفرنسية".

ربّما علينا أن نكون واقعيين ولا نتوقّع الكثير. فالسلطة تُبشّر بما لا تمارسه. رئيس وزراء كيبك، فيليب كويار، كان يمارس مهنة الطبّ الجراحي في السعودية وليس في كندا قبل مهنته السياسية. ووزير الصحة، غايتين باريس، الذي يرعى نظاماً يرفع من معايير معادلة الشهادات الأجنبية في مجال الطب إلى مستويات خيالية، هو نفسه خريج جامعة كاليفورنيا في مدينة سان دييغو الأميركية. اختصاصه هو الطب الإشعاعي الخاص بالأوعية الدموية. لكن يبدو أنّه يحتاج إلى أكثر من صور الأشعة ليتمكّن من تشخيص علّة نظام الصحة في المقاطعة التي يديرها.

دلالات