بلاد برسم الإيجار

بلاد برسم الإيجار

10 فبراير 2020
حالة هذا المحل لم تعد خاصة (حسين بيضون)
+ الخط -

توقفتُ مراراً أمام هذا المحل كلما مررت من أمامه، فهو يقع على الطريق الذي يقودني إلى منزلي. ومع أنه لم يكن في زاوية استراتيجية أو موقع مميز، بل في قلب منطقة شعبية، لكن يبدو أن المهتمين رأوا فيه شيئاً آخر، لا سيما أولئك الذين يحلمون بتحقيق "شيء ما".

أذكرُ أنه، عندما انتبهت له للمرة الأولى، كان محلاً لبيع اللانجيري النسائي، علماً أن صاحبه كان في ذات الوقت أستاذاً في التعليم الرسمي. وقد التقيتُ به مرة خلال الامتحانات الرسمية، وكانت مهمته مفتشاً عاماً، ولن أنسى وجهه اللئيم. فاستغربتُ كيف لشخص بمثل هذه الشخصية أن يجمع بين مهنتين على هذا الاختلاف. لكنني اكتشفتُ لاحقاً أن هذا الوجه كان ينقلب كتلة من اللطف عندما يبيعُ في محله. فأيقنتُ أن ملامح الوجه تتغيّر بحسب ضرورة كل واحدة من المهنتين.

ويبدو أن الرجل قد توفي أو هاجر أو أن سوق اللانجيري في المنطقة الشعبية قد تراجع فأُقفِلَ المحل، وظهرت لافتة "برسم الإيجار" على واجهته. وبعد فترة أعيد افتتاحه كمحل لبيع النظارات الطبية والشمسية. لم تكن الماركات عالمية ولا الأسعار مرتفعة، لكن يبدو أن المبيعات لم تكن بحجم التوقعات. فأُقفِل محل بيع النظارات وعُلّقَت لافتة "برسم الإيجار" من جديد.

مجدداً وبعد بضعة أشهر، يعود المحل البيروتي الصغير بصفة محل لبيع حلاوة الجبن الطرابلسية الشهيرة، التي يبرعُ فيها أهل الشمال اللبناني. صحيح أن أهل المنطقة الشعبية أُعجِبوا في بادئ الأمر بالمحل الجديد رغم تعدّد محلات الحلويات في منطقتهم، وهذا يحدث بطبيعة الحال عند ظهور كل جديد، غير أن ما حصل مع المحلات السابقة عاد وتكرر مع المحل الجديد. فبعد فترة وجيزة اختفى الزبائن من المحل. ورغم الكلفة المحدودة لهذا العمل، طالما أن صاحبه يشتري الحلويات جاهزة ويكتفي بعرضها في المحل، الذي لا تسمح مساحته بأكثر من ذلك فعلياً، ولا يزيد عدد الموظفين فيه عن واحد، غير أنه كان واضحاً أن هذه التكلفة رغم محدوديتها لم تكن كافية للاستمرار، فاقتضى الإقفال. حدث كل هذا في أقل من عامين. وقد شهدتُ أكثر من خمس مهن مختلفة، تناوبت على المحل، لن تكفي هذه المساحة لعرض جميع أحلام أصحابها وخيباتهم.




أمرُّ اليوم من أمام المحل فلا أرى غير لافتة "برسم الإيجار" ولا شيء سواها. لم يعد هناك مهتمون بالاستثمار في المهن الصغيرة، ولا في المحل. وقد لاحظتُ لاحقاً أن حالة هذا المحل لم تعد خاصة بل صارت حالة عامة مؤخراً، سواء في تلك المنطقة الشعبية، أو في شوارع تجارية أخرى في بيروت.

وربما كانت حالة البلاد كلها هي "برسم الإيجار"، لكن نحن الذين لا نريد أن ننتبه لذلك بعد.