"مدينة الأموات" في أرلينغتون الأميركية

"مدينة الأموات" في أرلينغتون الأميركية

25 ديسمبر 2017
جولة في المقبرة (وين ماكنامي/ Getty)
+ الخط -
في مدينة أرلينغتون، جنوبيّ الولايات المتحدة الأميركية، ثمة معلم تاريخي يجذب السائحين والمواطنين على حد سواء. إنّه مقبرة أرلينغتون الوطنية، حيث دُفنَ جنود أميركيون منذ أيام الحرب الأهلية

بعد عبور بوابة التفتيش الإلكتروني عند مدخل مقبرة أرلينغتون الوطنية، يصل الزائر إلى باحة يحتشد فيها العشرات، معظمهم من السائحين الأجانب ومن الأميركيين الوافدين من ولايات أخرى. فهذه المقبرة العسكرية الشهيرة في الولايات المتحدة الأميركية، يعود تاريخها إلى الحرب الأهلية الأميركية في ستينيات القرن التاسع عشر، وهي من الأمكنة المدرجة على لائحة المعالم التاريخية التي يقصدها زائرو العاصمة الأميركية.

في مقبرة "شهداء" الجيش الأميركي هنا في ضاحية واشنطن الجنوبية، ثمّة مدينة حديثة ومرتّبة تعجّ بالحياة وبإجراءات أمنية وبالموسيقى والأناشيد والعروض العسكرية وخطابات الرؤساء في المناسبات الوطنية. وشوارع "مدينة الأموات" هذه يقترب عدد الذي يقطنون فيها تحت التراب من النصف مليون، وهم بغالبيتهم جنود وضباط وجنرالات في الجيش الأميركي الذين سقطوا في حروب الولايات المتحدة الأميركية بدءاً من الحرب الأهلية إلى الحرب المكسيكية والحربَين العالميتَين إلى حرب فيتنام وبيروت (لبنان) وأفغانستان والعراق.

بالنسبة إلى صحافي من المنطقة العربية، فإنّ قراءة شواهد قبور الجنود الأميركيين وأسماء البلدان التي سقطوا فيها تمثّل لحظة مناسبة ومغرية لإجراء مقارنات قد لا تكون بمحلّها بين مقبرة "شهداء" الجيش الأميركي في واشنطن ومقابر في كلّ من بغداد وكابول وبيروت.



وتتوزّع أسماء الرؤساء الأميركيين السابقين على شوارع "مدينة الأموات" هذه، فشارع كينيدي الذي يقود سالكه إلى تلة أقيم عليها نصب يرفرف فوقه العلم الأميركي، دفن عليها الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي الذي اغتيل في عام 1963 والذي ما زالت عملية اغتياله لغزاً يقضّ مضاجع الأميركيين حتى الآن. يُذكر أنّ ضريح كينيدي تحوّل إلى مدفن عائلي خاص بآل كينيدي، بينما ارتفعت على تلال أخرى في مقبرة أرلينتغون الوطنية، الممتدة على مساحة بضعة أميال مربّعة في جوار العاصمة واشنطن، نصب وأعلام وأضرحة الرؤساء السابقين وودرو ويلسون وتيودور روزفلت وويليام ماكنلي وهربرت هوفر. وقد تحوّلت تلك الأضرحة كذلك إلى مدافن عائلية لورثة هؤلاء الرؤساء.

في مقبرة أرلينغتون الوطنية، يحتاج الزائر في حال لم يكن من ضمن مجموعة من السياح، إلى تنزيل تطبيق إلكتروني خاص على هاتفه الخلوي، ليكون دليلاً له في جولته هنا. ويتضمّن هذا التطبيق معلومات عن أسماء المدفونين وأرقام القبور وشوارع "مدينة الأموات". وهنا، في صفوف متناسقة، شواهد قبور عسكريين من كل الإثنيات والأديان ممّن أدّوا الخدمة العسكرية في الجيش الأميركي أو قضوا على جبهات القتال. كذلك، ثمّة مساحة خاصة لقبور جنود أميركيين مجهولي الهوية من دون شواهد تدلّ على هويتهم. تحت التراب، تختفي الفروقات العرقية والثقافية والدينية التي تقسم الأميركيين الأحياء بين بيض وسود، مسيحيين ومسلمين ويهود، مهاجرين من أوروبا أو آسيا أو أميركا اللاتينية، وإن كانت تظهر فوق الأرض وبوضوح الهوية الدينية المسيحية للمقبرة إذ تطغى الرموز المسيحية على الأضرحة والنصب وشواهد القبور.





وتتميّز مقبرة أرلينغتون الوطنية عن المقابر الأخرى في الولايات، إذ تُحدَّد الهوية الدينية والإثنية للمتوفى، وتساهم الكنائس والمساجد ومراكز العبادة اليهودية في تنظيم شؤون المقابر بالتعاون مع السلطات المحلية في الولايات. فيدفن الأميركيون المسيحيون أمواتهم في مقابر مسيحية وهكذا يفعل المسلمون واليهود والمجموعات الدينية الأخرى. ومسألة الدفن في مقابر دينية أمر يكرّسه الدستور الأميركي الذي ينصّ على حرية الأديان وممارسة الطقوس الدينية. لكنّ الهوية الدينية الخاصة للمقابر في الولايات المتحدة الأميركية، جعلت تلك الأمكنة هدفاً لاعتداءات من قبل مجموعات متطرّفة. ومع صعود موجات الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا في المجتمع الأميركي، تزايدت الاعتداءات على مقابر المسلمين أو نبش قبور اليهود أو حرق مدافن المسيحيين من أصول أفريقية. وقد ترافق ذلك مع صعود اليمين العنصري ودخول النازيين الجدد إلى المشهد السياسي الأميركي.

تجدر الإشارة إلى أنّ المقابر وأضرحة الرموز التاريخية مثّلت ساحة أساسية للحرب الثقافية والعرقية التي فجّرتها أخيراً حملة إزالة تماثيل قيادات تاريخية أميركية ارتبطت أسماء أصحابها بالعبودية والتمييز ضدّ السود. وفي حين كانت مجموعات اليمين الأميركي المتطرف تلطّخ مقابر المسلمين بدماء الخنازير وترسم شارات النازية على مقابر اليهود، كانت مجموعات يسارية متطرّفة ومنها منظمة "أنتيفا" المعادية للفاشية والمدافعة عن حقوق الأقلية الأفريقية قد شنّت حملة على المقابر والأضرحة والنصب، فاستهدفت منها ما يخصّ الجنرال روبرت لي قائد جيش الانفصال خلال الحرب الأهلية الأميركية وكذلك نصب كريستوف كولومبوس "مكتشف أميركا".