حقيقة الإسراف في رمضان

حقيقة الإسراف في رمضان

AAD7F5E5-D879-4976-85F4-52065D4CA2D3
عبد التواب بركات

أكاديمي وكاتب مصري، دكتوراه في العلوم الزراعية. أستاذ مساعد في مركز البحوث الزراعية بالقاهرة. متخصص في بحوث التنمية الزراعية وسياسات الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر الريفي. عمل مستشاراً بوزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر.

04 يونيو 2019
+ الخط -

في شهر رمضان من كل عام يكثر نشر نتائج دراسات تؤشر إلى تزايد معدلات استهلاك المسلمين في المنطقة العربية للطعام في الشهر عن غيره من بقية شهور العام إلى حد الإسراف والتبذير، بالرغم من كونه شهرا للصيام وليس لزيادة الطعام.

وتظهر نتائج الدراسات المدعومة بالأرقام زيادة إنفاق المسلمين العرب على الطعام خلال الشهر الكريم. وتركز الدراسات، التي يمكن تسميتها بالدراسات الرمضانية، في مجملها على نهم الاستهلاك واستهتار المسلمين بالنعمة وزيادة هدر الطعام وإلقائه في صناديق القمامة خلال الشهر الفضيل مع تزايد أعداد الجوعى في المنطقة.

في رمضان هذا العام، نشر موقع "بي بي سي" تحقيقًا بعنوان "رمضان في العالم العربي: بين ارتفاع معدلات هدر الطعام ومعدلات الجوع". وافتتح الكاتب التحقيق بهذه العبارة: "رغم أن رمضان هو شهر الصوم عن ملذات كثيرة بينها الأطعمة، فإنه بات في العالم العربي أكثر الشهور التي تشهد إسرافا في الإنفاق على الطعام الذي يورث تضخّم البطون وسلال القمامة على السواء".

واشتكى كاتب التقرير من صعوبة "إقناع الصائم العربي بالاقتصاد في إعداد وجبتَي الإفطار والسحور، مع طول ساعات الصيام وفي ظل طقس صيفيّ حارّ"، وقال إن "الإحصاءات في الدول العربية تؤكد أن حجم الإنفاق في رمضان، لا سيما في دول الخليج، يرتفع بنسبة 50% مقارنة بباقي شهور السنة".
وأشار إلى أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) تقول: "إن الفرد في المنطقة العربية يُهدر في صناديق القمامة كمية من الطعام تصل إلى 250 كيلوغرام سنويا، وإن الهدر يزيد في رمضان ليصل إلى 350 كيلوغرام، بالتزامن مع استمرار ارتفاع معدلات الجوع في منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، حيث يعاني 52 مليون شخص نقصا مزمنا في التغذية".

وطرح الكاتب سؤالًا قال فيه: كيف سيكون رد فعلك إذا علمت أن أكثر من 1800 طن من المواد الغذائية في دبي، و400 طن في البحرين تهدر يومياً، في شهر التعاطف والتعاضد، والإحساس بمن هم أقل حظاً في الدنيا؟ وقال إنه يستند في هذه الإحصائيات الدقيقة إلى تقارير هيئات رقابية رسمية في دول الخليج.

وتذكر تقارير اقتصادية أن معدلات الإنفاق للأسرة الخليجية في هذا الشهر تعادل قيمة ‏الإنفاق في ثلاثة أشهر، وأن استهلاك الأسرة فيه يزيد عن غيره من الشهور بنسبة 150%، وأن الاستهلاك في السعودية يمثل 75% من إنفاق الأسر الخليجية، وأن الشراء واستهلاك السلع في شهر ‏الصوم يشبه الحمى.

هذه التقارير لا تأخذ في الاعتبار أن عدد سكان السعودية يصل إلى 32 مليون نسمة، وتعداد المواطنين منهم 20.4 مليونا، ولا تقر بأن الاستهلاك يزيد في رمضان بسبب زيادة عدد المعتمرين في الشهر الكريم إلى 9.5 ملايين، وأن مثل هذا العدد يزور المملكة طوال العام غير ملايين الحجاج، وبالتالي تصبح هذه الدراسات غير موضوعية، وتحميل المواطن السعودي‏ وحده زيادة الاستهلاك في رمضان غير صحيح.

ليس المسلمون وحدهم

تقدر الفاو أن حوالي ثلث الأغذية المنتجة للاستهلاك البشري على مستوى العالم تُهدر ولا تستهلك، وهو ما يمثل حوالي 1.3 مليار طن من الأغذية في السنة.

وفي الدول الصناعية، يُهدر الطعام بمعدل 115 كغم للفرد الواحد، وقرابة 60 كغم للفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو المنطقة العربية عمومًا، في مقابل 10 كغم للفرد في منطقة جنوب الصحراء الأفريقية.
ومن حيث نوعية الأغذية المهدرة وكلفتها الاقتصادية، فإن معظم الأغذية المهدرة في صناديق القمامة في الدول الصناعية تشمل اللحوم، والمعجنات، والفطائر، والأسماك والمعلبات، والفواكه والعصائر. وفي الدول النامية، ومنها الدول العربية، فإن الأغذية المهدرة في الغالب تشمل الحبوب والخضروات والفاكهة، وشتان بين الكلفة الاقتصادية للأغذية المهدرة هناك وهنا.

وفق الفاو، تبلغ الكلفة الاقتصادية للأغذية المهدرة على مستوى العالم نحو تريليون دولار كل عام. تهدر الدول الصناعية في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان ما قيمته 680 مليار دولار، بينما الدول النامية، والتي تقع فيها الدول العربية وأفريقيا وشرق آسيا، مسؤولة عن هدر ما قيمته 310 مليارات دولار، ومن هنا يتضح الفارق.

وعلى مستوى الدول، أصدرت مجلة "إيكونوميكس" بالتعاون مع مؤسسة "باريلا للغذاء والتغذية"، دراسة إحصائية رصدت من خلالها كميات الطعام التي يتم هدرها سنوياً من قبل الأفراد على مستوى الدول.

تبين الإحصائيات أن الهدر السنوي من الطعام في السعودية يبلغ 427 كغم من الطعام لكل فرد، معظمها من الأرز الهندي، وهو سلعة رخيصة السعر بالمقارنة بأسعار اللحوم والدواجن والفواكه. وفي أميركا يصل هدر الفرد إلى 278 كغم، لكن معظمه من اللحوم والأسماك والمعلبات والفواكه باهظة الثمن.

وطبقًا لتقارير منظمة الفاو، فإن الدول الصناعية مسؤولة عن نحو 67% من فاقد اللحوم على مستوى العالم. ومعدل استهلاك اللحوم فيها يزيد عن 120 كغم للفرد في السنة، وباستثناء الكويت التي تستهلك 120 كغم، فإن السعودية تستهلك 56 كغم، وباقي الدول العربية أقل من ربع الكمية.

الصين، وهي دولة غير إسلامية، تهدر ما قيمته 32 مليار دولار من الطعام في السنة، والهند 40% من إنتاج الفاكهة والخضار بقيمة 8.3 مليارات دولار تتلف بسبب سوء التخزين.

ليس في رمضان فقط

تقر منظمة الفاو بأن الأعياد هي أوقات خاصة للاحتفال بالطعام وتقديره. وهي تتسم بالإفراط في تناول الطعام وهدره بسبب ارتباطها بالأطعمة التقليدية، مثل سلطة أوليفيه لرأس السنة الجديدة في روسيا، وعصيدة الفاصوليا الحمراء لانقلاب الشمس في كوريا، وخشاف رمضان في الشرق الأوسط والهند، وفطائر اللحم المفروم لعيد الميلاد في إنكلترا، وخبز البواجا لعيد الفصح الأرثوذكسي. وأياً كان العيد وأينما احتُفل به في العالم، هناك عادة نوع خاص من الطعام مرتبط به، فلماذا نُقصر هدر الطعام على المسلمين فقط وفي رمضان فقط؟!

يهدر البريطانيون أطعمة تزيد قيمتها عن المليار دولار في ليلة عيد الميلاد فقط، ويُلقون في القمامة حوالي 263 ألف ديك رومي، وعدد 3.2 ملايين وجبة عيد الميلاد الثمينة، وعدد 740 ألف عبوة من حلوى البودنغ في ليلة واحدة.
في دراسة لجامعة ستانفورد قالت إن هدر الطعام في الولايات المتحدة يزيد عن أي وقت آخر من السنة بمعدل 25% خلال فترة عيد الشكر حتى عطلة رأس السنة الجديدة. وتبلغ كمية نفايات الطعام الإضافية 25 مليون طن تذهب كلها إلى القمامة.

وكتب غوردون لازيل، في موقع المجموعة الدولية للأغذية التالفة وهدر الطعام، وهو موقع يضم خبراء متخصصين في بحوث الغذاء وعلوم التغذية، أن التقديرات تشير إلى أن 7.4 ملايين فطيرة باللحم المفروم تُلقى في القمامة في كل عيد ميلاد، وأن 4.2 ملايين وجبة من الديك الرومي والمعجنات الدسمة تسير أيضًا إلى سلة المهملات.

حسب شركة ينيليفر، وهي سابع شركة تعمل في مجال الأغذية في أوروبا، فإن كمية البيرة التي شربها البريطانيون خلال عيد الميلاد الماضي يمكن أن تملأ 57 حوض سباحة بحجم أولمبي، وأهدروا 740 ألف طبق من بودنغ الكريسماس، و17.2 مليونا من براعم بروكسل، و11.9 مليونا من البطاطا المشوية.

قيمة ما يلقيه المواطن الفرنسي من الطعام في سلة النفايات بين 12 و20 مليار يورو في السنة، بينما تبلغ قيمة ما تُهدره كل أسرة في بريطانيا نحو 800 يورو سنوياً، ما يقدر بنحو 6.7 ملايين طن من الغذاء سنوياً، بمعنى أن 32 في المائة من الطعام المشترى لا يؤكل.

وفي أميركا، يرمى ما نسبته 30% من الغذاء سنويا، أي ما تصل قيمته إلى 48 مليار دولار، فلماذا لا تذكر الدراسات الرمضانية ذلك، وتهتم بطرح آراء الخبراء لتقليل الهدر في العالم كله وليس المنطقة العربية وحدها.

الأسباب مختلفة

وفق منظمة الفاو، فإن البلدان النامية تفقد 40% من الأغذية فيها خلال مرحلة الإنتاج والتداول بسبب تخلف مرافق التعبئة والنقل والتخزين، وتقع مسؤوليتها على الحكومات، والأقل بكثير من الطعام هو ما يُهدر عند المستهلكين.

والعكس في الدول الصناعية، حيث تُهدر 40% من الأغذية عند المستهلكين، بسبب سلوكياتهم الاستهلاكية المسرفة، والأقل بكثير من الطعام يضيع خلال مراحل الإنتاج حتى مرحلة ما قبل الاستهلاك، بسبب اهتمام حكومات هذه الدول بمرافق تعبئة ونقل وتداول وتخزين الأغذية.


بالنسبة للدول الغنية، فإن جملة من العوامل المرتبطة بسلوكية المستهلكين وراء المستويات العليا من الفاقد الغذائي لدى مجتمعات الرفاه، ويشمل الإسراف في الشراء، والمغالاة في الاستجابة لتاريخ انتهاء صلاحية السلعة، وإهمال الباعة تسويق كمّيات كبيرة من المواد الغذائية لمجرد التغيير في شكل العبوات، حسب منظمة الفاو.
وعلى صعيد البلدان النامية، تقع خسائر كبرى في مرحلة ما بعد الحصاد، تحديداً خلال المراحل المبكّرة في سلسلة التجهيز، ما يطرح مشكلة رئيسيّة تُعزى إلى إهمال الحكومات في هذه الدول أساليب الحصاد والتخزين الصحيح، وعدم كفاية مرافق البنى التحتية للنقل، وعادة ما تندمج مع ذلك عوامل الظروف المناخية المساعدة على إتلاف المواد الغذائية.

سبب اتساع رقعة الفقر في العالم العربي يعود بالأساس إلى تفشي الفساد المالي في الدوائر الحكومية، واستئثار الإنفاق العسكري على نسبة كبيرة من الميزانيات الوطنية على حساب التنمية الاقتصادية، علاوة على انعدام التخطيط السليم لمواجهة مشكلة الفقر، وليس الإنفاق على الطعام في رمضان كما تحاول أن تصوره الدراسات الرمضانية.

ذات صلة

الصورة

مجتمع

انعقد إفطار منطقة المطرية الشهير هذا العام تحت شعار "السنة العاشرة جيرة وعشرة.. لمة العيلة الكبيرة"، وارتدى عشرات الحضور القمصان السوداء المزيّنة بشعار فلسطين..
الصورة
المعروك: أكلة رمضان التراثية في شمال غربي سورية / العربي الجديد

منوعات

يعتبر المعروك وجبة رئيسية في رمضان عند معظم السوريين، سواء بعد الإفطار أو على مائدة السحور، حيث تنتج الأسواق هذه الأكلة الشعبية بأشكال مختلفة.
الصورة
فلسطينيون من الضفة الغربية عند حاجز قلنديا 1 (العربي الجديد)

مجتمع

تعقّد سلطات الاحتلال وصول الفلسطينيين المسنّين من الضفة الغربية المحتلة إلى المسجد الأقصى في القدس المحتلة، لأداء صلاة الجمعة في شهر رمضان.
الصورة

مجتمع

تستعدّ العاصمة اليمنية صنعاء لاستقبال رمضان، بنشر الجمال والبهجة في كل ركن من أركان المدينة، حيث تتحوَّل الشوارع إلى لوحات فنية تتوهج بألوان الفوانيس.

المساهمون