سيادة المحافظ... لسانك حصانك

سيادة المحافظ... لسانك حصانك

30 يناير 2019
صراع مستمر ما بين ترامب وباول (Getty)
+ الخط -
تشير أدبيات العمل المصرفي، وتحديداً ما يتناول منها البنوك  المركزية في كافة بلدان العالم، إلى وجود أهداف واضحة ومحددة، ويتم اختيار محافظي البنوك، ومنحهم صلاحيات واسعة، واستقلالية حقيقية، من أجل العمل على تحقيقها، ويأتي على رأس هذه الأهداف تحقيق نمو اقتصادي  حقيقي.

ولكي يكون نمو الاقتصاد حقيقياً، لا بد أن يصحبه استقرار في الأسعار. ولو لم تستقر الأسعار واتسمت بالارتفاع أغلب الوقت، كما يحدث في البلدان التي تشهد انقلابات على رؤساء منتخبين (كما في الحالة الفنزويلية)، سيبدو لنا أن الاقتصاد حقق نمواً، بينما يكون هذا النمو ظاهرياً وغير حقيقي، أي أنه يعكس ارتفاعاً في أسعار  السلع والخدمات المنتجة خلال العام، لا زيادة في الانتاج.

ولكي تستقر الأسعار، لا بد أن يتم علاج الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، وأهمها العجز الدائم في ميزان المدفوعات، كما العجز المتزايد في الموازنة العامة.

فاستمرار العجز في كليهما لفترات طويلة، نتيجة سيطرة الحكم العسكري على السلطة لعقود (كما في الحالة الزيمبابوية)، يجبر الدولة على الاقتراض، ويحملها المليارات من الدولارات (في حالة عجز ميزان المدفوعات)، ومليارات من العملة المحلية (في حالة عجز الموازنة) في صورة فوائد على القروض، الأمر الذي يحرم تلك الاقتصادات من نسبة كبيرة من مواردها، كان يمكن توجيهها لتحسين الخدمات المتردية في التعليم والصحة والصرف الصحي والبحث العلمي (كما في الحالة السودانية).

ولكي تتمكن الدول من تحقيق ذلك، يتعين عليها استخدام كافة الموارد المتاحة لديها، وعلى رأسها بالتأكيد العنصر البشري. ولذلك أصبحت مهام البنك المركزي في أي دولة هي مساعدة الاقتصاد على تحقيق نمو حقيقي، وتحقيق استقرار سعر الصرف، وعلاج الاختلالات الهيكلية، عن طريق تحقيق أقرب ما يمكن من التشغيل الكامل.

وفي حالة فشل القرارات التي يتخذها محافظ البنك المركزي في تحقيق النمو المطلوب لتحسين مستويات معيشة المواطنين، أو الحفاظ على استقرار العملة المحلية، أو علاج الاختلالات، تتراجع قيمة العملة المحلية، وتزداد ديون الدولة، وتسوء الخدمات التي تقدمها لمواطنيها، فتنخفض مستويات معيشتهم، وتقل قدرة البلد على اتخاذ قراره السياسي بمعزل عن مقرضيه (كما في الحالة الأرجنتينية).

ومع تنامي الدور الذي تلعبه البنوك المركزية في حياة المواطنين، لم يعد ممكناً أن يتبع البنك المركزي سياسة معينة، أو أن يكون لديه توجه محدد، دون توضيح الأسباب التي دعته لاتباع تلك السياسة أو لاتخاذ ذلك التوجه للرأي العام. وجرت العادة في السنوات السابقة أن يعقد رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي، وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة، أربعة أو خمسة مؤتمرات صحافية كل عام، يشرح فيها تطور رؤية البنك للاقتصاد، مع الاشارة إلى خطوط عريضة لما ينبغي أن يتوقعه المواطنون في الفترات التالية.

وفي يونيو / حزيران من العام الماضي، وبعد شهور قليلة من وصوله إلى رئاسة البنك الفيدرالي، قرر جيرومي باول أن يتم عقد مؤتمر صحافي بعد كل اجتماع للجنة السياسات النقدية بالبنك اعتباراً من بداية العام الحالي 2019، وهو ما يعني عقد ثمانية مؤتمرات صحافية خلال العام.

قرار جيرومي باول بمضاعفة المؤتمرات الصحافية لم يأت من حبه للظهور الإعلامي، ولا من رغبة في إظهار سيطرته على البنك الأكثر تأثيراً في العالم، وإنما كان انعكاساً لفهمه لدوره ووعيه بواجبه تجاه المواطنين، في وقتٍ يواجه فيه الاقتصاد الأميركي صعوبات، يأتي على رأسها توجهات أسعار الفائدة على الدولار.

ولم يفت باول، عند إعلانه زيادة عدد المؤتمرات الصحافية، أن يؤكد للصحافيين أن القرار لا يعطي أي دلالة فيما يخص توقيت أو اتجاه تحرك معدلات الفائدة في المستقبل. وهذه الملاحظة البديهية تؤكد إدراك باول للدور الخطير الذي يلعبه، ولأهمية المنصب الذي يشغله، حتى أن كل كلمة منه تشغل الملايين، الذين يعكفون على دراسة وتحليل وتفسير كل ما يصدر عنه، لاستخلاص ما يمكن استنتاجه من تحركات تالية للبنك.

وتشهد التقلبات الكبيرة التي حدثت في أسواق المال، نتيجة لتصريحات باول، أواخر العام الماضي والأيام الأولى من العام الحالي، على صحة هذا الكلام، حتى أن بعض المحللين في إحدى الحالات استخرج لنا من حديثه الجملة التي أوحت للمتعاملين في الأسواق أن عدد مرات رفع معدلات الفائدة الأميركية خلال العام الحالي سيكون مرتين فقط وليس ثلاثا كما كان شائعاً!

نفس الحس الواعي كان موجوداً لدى آلان جرينسبان، الرئيس الأسطوري للبنك الفيدرالي، الذي جلس على عرش البنك ما يقرب من عشرين عاماً، حيث ذكر في مذكراته التي نشرها في كتاب أطلق عليه اسم "عصر الاضطراب The age of turbulence" أنه كان شديد الحساسية في اختيار كلماته عند التحدث للصحافيين، كونه يدرك أنهم يعملون على تفسير كل كلمة يقولها.

ويشير جرينسبان إلى أنه، عند إعلانه قرار تغيير أو تثبيت معدلات الفائدة، كان الصحافيون يربطون بين حجم الحقيبة التي يحملها والقرار الذي سيعلنه، بحيث أنها لو كانت ممتلئة، فهذا يعني أن بها الكثير من الأوراق لتبرير القرار، وبالتالي فسيكون القرار بالتغيير، أما لو كانت غير ممتلئة، فهذا يعني أن القرار هو التثبيت، ويسخر جرينسبان من هذه التوقعات في كتابه، موضحاً أن امتلاء الحقيبة كان عادة ما يحدث بسبب "السندوتشات" التي أعطتها زوجته إياها.

قد يتقبل المواطنون القرارات الخاطئة من البنك المركزي لأنها واردة في أي مكان، كما قد يتفهمون عدم قدرة البنك على تحسين الأوضاع الاقتصادية، حين تكون الظروف معاكسة. لكن ما لا يمكن قبوله هو الضحكات الهستيرية غير المبررة، والتصريحات غير المفهومة، والتعليقات التي تؤدي إلى نتائج عكس ما كان مقصوداً بها، لأنها ببساطة تعطي المتلقي، خاصة مع تكرارها، انطباعاً بضرورة تخليصنا من هذا المسؤول، غير المسؤول، في أسرع وقت ممكن.