ضرب المشاريع... تهجير جديد في العراق

ضرب المشاريع... تهجير جديد في العراق

29 اغسطس 2016
أحد عناصر المليشيات في مصنع شمال بغداد (Getty)
+ الخط -
باتت المشاريع العراقية في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" والمتاخمة لها، في مرمى استهداف القوات الأمنية العراقية والمليشيات الداعمة لها بشكل يبدو منظماً وفق مستثمرين، مشيرين إلى أن استهداف المشاريع يأتي في إطار خطة تهجير واضحة للاستثمارات والسكان في آن واحد.
لكن القوات الأمنية العراقية تبرر خطواتها، بأنها تسعى إلى قطع الإمدادات المالية عن تنظيم الدولة، لافتة إلى أن تحركاتها تأتي في إطار ما تمتلكه من معلومات استخباراتية، حول وجود مشاريع مختلفة موجودة في مناطق بأطراف العاصمة العراقية بغداد، تدر أرباحاً على "داعش".
في المقابل، فإن سكان تلك المناطق هم من تتعرض مشاريعهم ومناطقهم للدمار، ما كبدهم خسائر كبيرة، مؤكدين أن لا وجود لـ "داعش" بينهم، وما يحصل إنما خطة لطردهم من مناطقهم وفق ممارسات طائفية. ويبدو أن نقل المستثمرين العراقيين أعمالهم إلى خارج بلادهم، ولا سيما إلى دول عربية، لم يتوقف منذ غزو البلاد عام 2003، إذ صارت المليشيات "الطائفية"، التي ظهرت منذ ذلك التاريخ تستهدف ميسوري الحال من خلال عمليات خطف وسطو للحصول على أموال. ويقول سكان من مناطق أطراف بغداد الشمالية لـ"العربي الجديد"، إن "حجة داعش" تبيح للقوات الأمنية والمليشيات فعل كل شيء.
هذه المرة، ووفقاً للشيخ القبلي وليد المشهداني، من سكان قضاء التاجي، شمالي بغداد، الاستهداف الطائفي جاء عن طريق أرزاق السكان، من خلال تدمير مشاريعهم وجرف بساتينهم. ويتابع المشهداني، في حديث لـ"العربي الجديد"، "هناك عوائل تسكن هنا منذ أكثر من 200 عام. الآن على هؤلاء الرحيل، فإن لم يتعظوا من استهداف وتدمير مشاريعهم وأعمالهم فلا بد أن وسيلة أخرى ستستخدم لتلك الغاية".
المشهداني يرى، هو وسكان المناطق التي تسمى أطراف بغداد الشمالية، أن "داعش" سبب تتخذه الحكومة لطردهم من مناطقهم، فهو يؤكد أن الاتفاق الذي عقدته القوات الأمنية مع شيوخ قبائل المنطقة تقضي بخروج العوائل من منازلها والذهاب إلى مخيم قريب، لكي تقوم القوات الأمنية بتطهير المنطقة من "داعش". ويقول "سوف يجرفون البساتين كما فعلوا في مرات سابقة، ويدمروا المشاريع الزراعية، وعلى السكان أن يغادروا إلى مناطق أخرى أو مخيم يقام لهذا الغرض، حتى تكتمل أعمال التطهير، لكنهم سيمنعوننا من العودة بحجج كثيرة، حتى نُجبر على بيع مزارعنا وبيوتنا بأبخس الأثمان والمشتري جاهز، إنها المليشيات".
ويؤكد ناصر العبدالله، أحد زعماء قبائل التاجي، إنه "لا وجود لداعش في مناطقنا"، ويوافقه الرأي سكان أطراف بغداد الذين التقاهم مراسل "العربي الجديد".

2500 بحيرة لـ "داعش"

لكن الروايات الحكومية تشير إلى عكس ما يقوله سكان المناطق الشمالية للعاصمة، فالسلطات القضائية، أعلنت في أبريل/نيسان الماضي، عن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على نحو 2500 بحيرة أسماك ومعارض للسيارات في شمال بغداد لتمويل نشاطاته، بعد تدمير الكثير من مصادره النفطية، وطالبت آنذاك بضرورة فرض رقابة مشددة على شركات التحويل المالي للحد من نقله الأموال بين المحافظات.
وبحسب التحقيقات التي أجرتها الأجهزة المختصة مع بعض أتباع التنظيم الذين تم اعتقالهم، فإن "داعش" ابتدع في العراق "وسائل غير تقليدية" لتأمين نفقاته وإدارة شؤونه المالية، بعد سيطرة القوات الأمنية على حقول نفطية عدة كان قد اتخذها التنظيم مصدراً للتمويل.


وأفصحت محكمة التحقيق المركزية عن بعض ما توصلت إليه بخصوص الآليات التي يعتمدها التنظيم لتمويل نشاطاته. وبحسب قاضي المحكمة جبار عبد الحجيمي، في مقابلة مع صحيفة "القضاء" الصادرة عن المركز الإعلامي للسلطة القضائية، فإن "آلية تمويل الإرهابيين تختلف حالياً عما كانت عليه قبل إعلان ما يسمى بدولة الخلافة قبل نحو عامين"، موضحاً أن "عمل بيت المال في التنظيم، الموجود في الموصل (شمال)، يشبه ما تقوم به وزارة المالية".
ويضيف الحجيمي أن "مصافي النفط الموجودة في سورية تشكل مصدر التمويل الرئيس للتنظيم على المستوى الدولي، إذ يباع إنتاجها للمهرّبين بمبالغ بخسة أحياناً، والتنظيم يعتمد على الأراضي الزراعية التي حصل عليها مؤخراً في المناطق خارج سيطرة القوات الأمنية، من خلال فرض الضرائب على الفلاحين، فضلاً عما يطلق عليها غنائم الغزوات العسكرية التي يقوم بها".
ويقول القاضي إن "داعش أعاد تشغيل المعامل الحكومية في مناطق نفوذه، كالموصل، للاعتماد على عوائدها المالية"، لافتاً إلى أن "التنظيم يقوم بتوزيع الأموال على المناطق خارج سيطرته من خلال مكاتب حوالة تذهب بالدرجة الأولى إلى أربيل ومنها إلى بقية محافظات العراق". ويتابع أن "التنظيم استحدث منصب الأمير الاقتصادي المسؤول عن حصر إيرادات الولايات ضمن جداول لتقدّير حاجاتها المالية"، موضحاً أن " داعش يعد ولاية شمال بغداد، على أنها ثقله المالي، ومصدر التمويل الرئيس له في العاصمة على وجه الخصوص".
وبحسب الحجيمي فإن "الإجراءات التحقيقية قادت إلى نحو 2500 بحيرة أسماك في مناطق شمال العاصمة، مساحة الواحدة منها 500 متر مربع، تذهب عوائدها المالية إلى التنظيم"، مبيناً أن "نسبة قليلة من تلك البحيرات مجازة في حين تعمل غالبيتها خارج الضوابط".
ويقول إن "تنظيم الدولة أقام قسماً من تلك البحيرات ووضع فيها عمالاً لغرض البيع، كما استولى على أخرى تركها أصحابها بسبب الأحداث الأمنية"، مؤكداً أن "بعض أصحاب تلك البحيرات اتفق مع التنظيم على تقاسم الأرباح مقابل عدم التعرض إليهم". ويشير إلى أن "واردات تلك البحيرات تصل إلى مليارات الدنانير شهرياً، علماً أنه يستغلها منذ عام 2007، لكن الأجهزة الأمنية اكتشفت الموضوع مطلع العام الحالي 2016، من خلال اعترافات أحد المتهمين".
وكان تنظيم "داعش" قد سيطر في يونيو/حزيران عام 2014 على مناطق شاسعة من العراق، تقدر بثلث مساحة البلاد، خاصة مدينة الموصل الشمالية ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، ثم تمدد إلى مناطق أخرى في غرب وشرق البلاد، حيث فرض سيطرته على مناطق مهمة في محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين والأنبار، قبل أن تتمكن القوات الأمنية من طرده من معظمها مؤخراً، وهي تستعد حالياً بدعم من التحالف الدولي لمواجهة التنظيم في معركة مصيرية تستهدف تحرير الموصل.

ويقول القاضي في محكمة التحقيق المركزية، ضياء جعفر، إن "موارد التنظيم اختلفت بعد سيطرته على بعض المناطق من خلال الاستفادة من آبار النفط، والمصارف الحكومية ومحطات تعبئة الوقود، إضافة إلى شركات الهاتف النقال"، مشيراً إلى أنه أقحم نفسه في التجارة أيضاً، ولا سيما في المناطق خارج سيطرته، فقام بشراء معارض لبيع السيارات وأناط إدارتها لمتعاونين معه للحصول على المنافع المالية.
غير أن التصريحات الصادرة عن القضاء العراقي، فتحت الباب واسعاً أمام الجهات الأمنية والمليشيات لتفعل ما تشاء تجاه المشاريع في مناطق شمال العاصمة وكذلك في بغداد، بحسب مراقبين، وهو ما يشجع من بقي من أصحاب المشاريع الصغيرة من السنّة إلى ترك البلاد، بعد أن سبقهم أصحاب مشاريع أكبر، وفقاً لمستثمرين.
ويخالف أصحاب مزارع الأسماك، ما ذهبت إليه محكمة التحقيق المركزية، مؤكدين أن أغلبهم استغل امتلاكه مساحات واسعة من الأراضي، وقربهم من نهر دجلة للاستثمار في مجال الأسماك، خاصة بعد تدهور الزراعة في العراق، عقب غزو البلاد قبل 13 عاماً وليس بين تلك المشاريع ما هو لـ "داعش".
يقول فاضل النداوي، ويسكن قضاء الطارمية، شمالي العاصمة، في حديثه لـ"العربي الجديد" إن "الحكومة بعد 2003 لم تهتم بالواقع الزراعي، وفتحت الباب على مصراعيه لاستيراد محاصيل زراعية بأسعار رخيصة مقارنة بالمحلية، وهو ما أدى إلى قتل الزراعة المحلية".
ويضيف النداوي "نحن هنا في مناطق أطراف بغداد، جميعنا فلاحون، ولدينا أراض زراعية، والزراعة مهنة ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، لكن ليس ممكناً أن نواصل هذه المهنة بعد أن صارت تكبدنا خسائر، لذلك كان لزاماً على السكان أن يبحثوا عن أعمال أخرى". ويتابع "البعض أسسوا مشاريع لتربية الأسماك، وآخرون معامل للدواجن ومصانع طابوق وغيرها من المشاريع، فجميع أصحاب المشاريع هنا ليس بينهم عناصر في داعش".
صالح الجنابي، يملك مزرعة في قضاء الطارمية، أحد الأقضية الواقعة في مناطق حزام بغداد الشمالي، يقول "هناك حملة لطمر بحيرات الأسماك، لإجبارنا على ترك مناطقنا، هذا ما نحن متأكدون منه". ويضيف أن "مشاريع مختلفة تم هدمها وسرقة محتوياتها من قبل المليشيات، التي ترافق القوات العسكرية، كما حصل لمعامل الطابوق في منطقة الطارمية، قبل 6 أشهر".
واشتهرت المليشيات، بحسب تأكيدات مواطنين لـ"العربي الجديد" بأعمال عنف وانتهاكات وتجاوزات على سكان في أطراف بغداد ومناطق مختلفة من البلاد، وثق بعضها ناشطون وصحافيون، بالإضافة إلى مؤسسات حقوقية دولية.
وتنفذ المليشيات انتهاكاتها بدواع "طائفية"، وهو ما نجحت من خلاله في تفريغ مناطق كبيرة في أطراف بغداد وفي محافظات أخرى من سكانها الأصليين. وظهرت المليشيات في العراق بعد 2003، إذ تعتبر الأذرع المسلحة لأحزاب وشخصيات في السلطة.
مستثمرون تحدثوا لـ"العربي الجديد"، يؤكدون أن العراق لم يعد بلداً آمناً للاستثمار، سوى لطائفة معينة. ويقول فاروق الكبيسي، الذي حوّل مشاريعه في الإنشاءات إلى الأردن منذ 2012، إن من تربطهم علاقات قوية مع المليشيات أو شخصيات سياسية في الحكومة العراقية، هم من يستطيعون العمل فقط في العراق حالياً.
ويضيف الكبيسي "جميع المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال السنّة تم ابتزازهم، بعضهم تعرض للخطف هو أو أحد أبنائه للمساومة على مبلغ من المال، فيما لم يحصل هذا الأمر مع مستثمرين وأصحاب رؤوس أموال كبار ما زالوا في العراق يعملون بشكل آمن؛ كونهم شيعة". وصار للمليشيات صفة رسمية، بعد انضمامها لقوات "الحشد الشعبي"، بالرغم من أنها تنتشر في الشارع منذ 2003.

المساهمون