الاقتصاد يضاعف أزمات ماكرون

الاقتصاد يضاعف أزمات ماكرون

14 ديسمبر 2018
من التظاهرات في شوارع باريس هذا الشهر (فرانس برس)
+ الخط -

المصائب لا تأتي فرادى، كما ينسب إلى الشاعر الإنكليزي وليم شكسبير. هذا ينطبق على المأزق الذي يعيشه حالياً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يواجه مجموعة من المخاطر، فالرئيس ماكرون الذي قدم حتى الآن كل التنازلات الممكنة لحركة "السترات الصفراء" على أمل الخروج من أزمة الاحتجاجات التي أشعلت باريس، يوم السبت الماضي، لكن هذه التنازلات لم تجعل منه رئيساً مقبولاً لدى الشعب الفرنسي.

فالحزمة المالية التي قدمها للمحتجين وشملت إعفاء ساعات العمل الإضافية من الرسوم وإلغاء الزيادة الأخيرة على ضرائب التأمين الاجتماعي لأصحاب المعاشات الذين يتقاضون أقل من ألفي يورو ورفع الحد الأدنى للأجور 100 يورو (حوالى 114 دولاراً)، ربما لن تنهي الاحتجاجات، ولكنها بالتأكيد سترفع من العجز في الميزانية الفرنسية وتضعه في أزمة جديدة.

ومن المتوقع أن يدخل رفع العجز بالميزانية فرنسا في أزمة مع المفوضية الأوروبية التي تطالب قوانينها بمستوى معين من عجز، لا يقل عما يحدث مع إيطاليا.

واعترف رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، يوم الثلاثاء، بأن التنازلات المالية التي قدمها ماكرون سترفع من الإنفاق الحكومي. كما من المقدر أن تكون لهذه الإجراءات تداعيات سلبية على الاستثمار والمستثمرين في أدوات المال الفرنسية، كما ستجعل فرنسا العضو المهم في منطقة اليورو، تتخطى الحد الأدنى من العجز المسموح به من قبل المفوضية الأوروبية.

ويقدر اقتصاديون أن ترفع هذه الإجراءات العجز في الميزانية الفرنسية لعام 2019 إلى نسبة 3.4% من الناتج المحلي. وهذه النسبة تفوق كثيراً نسبة العجز الإيطالي البالغ 2.4%، ومتوسط العجز في دول منطقة اليورو الذي تراوح نسبته بين 0.9% و1% من الناتج المحلي في ميزانيات 2017.

وإذا كانت الدول الأوروبية تحتج وتنوي معاقبة إيطاليا على عجز 2.4%، فما الذي ستفعله مع فرنسا التي من المقدر أن يقفز العجز بميزانيتها إلى 3.4%؟

على صعيد أزمة ماكرون مع أسواق المال، رفعت هذه التنازلات المالية التي قدمها من مخاطر الائتمان الفرنسي إلى أعلى مستوى منذ العام 2017. وبدأ المستثمرون ينظرون بحذر إلى مخاطر استثماراتهم في سندات الخزينة الفرنسية لأجل عشر سنوات، وهنالك مخاوف من رفع التأمين على الدين الفرنسي في أسواق المال.

ومن المتوقع أن ترفع الإجراءات المالية التي أعلن عنها الرئيس ماكرون الإنفاق الفرنسي بحوالى 11 مليار يورو (حوالى 12.54 مليار دولار). وفي حال تساهلت المفوضية الأوروبية مع ماكرون، فإن ذلك سيشجع إيطاليا ودولاً أخرى على حجم إنفاق أكبر في ميزانية 2019.

ومن هذا المنطلق، فإن فرنسا التي تعد من أكبر الداعمين للوحدة الأوروبية، ربما تصبح عبئاً على المشروع الأوروبي خلال العام المقبل.

على صعيد السياسة النقدية، فإن أزمة فرنسا التي تتحول بسرعة من قضية مطالب محدودة بإلغاء الضريبة على الوقود إلى أزمة اقتصادية ومالية سياسية، تدعو البنك المركزي الأوروبي إلى مواصلة مشروع "التحفيز الكمي"، أي طباعة اليوروهات المجانية لإنقاذ فرنسا، في حال هروب المستثمرين من أدواتها المالية التي تعتمد عليها في تمويل العجز الذي سيتصاعد في أعقاب هذه التنازلات.

وسبق لفرنسا أن تجاوزت عدة مرات معدل العجز المحدد من قبل المفوضية الأوروبية، ولكن هذه المرة سيكون التجاوز كبيراً ووسط أزمة سياسية وتهديد من قبل اليمين المتطرف.

وحتى الآن أضرت الاحتجاجات بحركة السياحة والترفيه والتسوق في باريس ومراكز تسوق رئيسية أخرى، كما ألحقت أضراراً ضخمة بالمحلات التجارية في وسط باريس، حيث تعرضت السيارات للحرق والمحلات التجارية لتهشيم النوافذ. وبالتالي ضربت الاحتجاجات التي ربما استغلها اليمين المتطرف واليسار موسم تسوق أعياد الميلاد، وتسببت بإحراج ماكرون اقتصادياً مع أوروبا بزيادة الإنفاق العام لتغطية نفقات إصلاح التخريب.

وعلى الرغم من أنه لا توجد أرقام دقيقة حول حجم الخسائر التي تسببت بها الاحتجاجات، إلا أنها دفعت البنك المركزي الفرنسي، "بنك فرنسا"، لمراجعة توقعات النمو الاقتصادي إلى 0.2% بدلاً من 0.4% خلال الربع الأخير من العام الجاري.

وبالنظر إلى حجم الاقتصاد الفرنسي المقدر بحوالى 2.794 تريليون دولار بمقياس مكافئ القوة الشرائية، يمكن قياس خسارة الاقتصاد الفرنسي من عمليات التخريب المادية والمعنوية التي لحقت بالاقتصاد والتي قدر المركزي الفرنسي أنها ستخفض النمو الاقتصادي بنسبة 0.2%.

وحتى الآن ترفض حركة "السترات الصفراء" نداءات الرئيس ماكرون بوقف الاحتجاجات، حيث هددت بأن الحزمة المالية وتنازلاته غير كافية، وربما ستعود للاحتجاج في يوم السبت المقبل. وما يزيد من غضب الشارع الفرنسي رفض ماكرون حتى الآن إلغاء الضريبة على الأثرياء. وهو ما جعل رجل الشارع والطبقة الوسطى الفرنسية تنظر إليه على أساس أنه "رئيس للطبقة الثرية" التي يتحدر منها وليس رئيساً لكل فرنسا.

وحسب وكالة الأنباء الفرنسية، من المتوقع أن تبدأ حركة "السترات الصفراء" بالحشد لاحتجاجات بخططٍ بديلة لتجاوز ِحصون الشرطة حول العاصمة هذه المرة، رغم التحذيرات، وبالتالي تتضاعف الأزمات التي تحاصر ماكرون وتتطور من أزمة مع حركة السترات الصفراء إلى أزمة مع الشارع الفرنسي، وربما تتطور لتتحول إلى أزمة مع أوروبا.

وفي الوقت الذي خسر فيه ماكرون رجل الشارع، فإنه فشل في كسب طبقة الأثرياء، حيث إن الإجراءات المالية التي تنازل عنها للمحتجين، أغضبت المصارف وأصحاب الاستثمارات الذين رأوا فيها تجاوزاً لبرنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي أعلن عنه لجذب الاستثمارات في البلاد وزيادة كفاءة وتنافسية الاقتصاد الفرنسي.

وعلى الصعيد السياسي، يواجه ماكرون أزمة انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستجرى في مايو/ أيار المقبل، في وقت تتناقص فيه شعبيته إلى أدنى مستوياتها عند 23%.

وتتزايد هذه الضربات على ماكرون في وقت يقف فيه حزب اليمين المتطرف الذي تقوده ماريان لوبان بالمرصاد لاقتناص الفرص وربما هزيمته في الانتخابات الرئاسية في عام 2022.