الديون المتعثرة تهدد صندوق التنمية العقارية السعودي بالإفلاس

الديون المتعثرة تهدد صندوق التنمية العقارية السعودي بالإفلاس

30 يناير 2018
تعثر صندوق التنمية أثر سلباً على قطاع العقارات(العربي الجديد)
+ الخط -
قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس يبدو مصير صندوق التنمية العقارية REDF السعودي، الذي أُنشئ أصلاً بمبادرة حكومية قبل 44 عاماً ليساعد في حل أزمة التمويل الإسكاني بالمملكة، قبل أن يتحوّل مصيره هو ذاته، اليومَ، أزمةً قاتمةَ الأفق تضع مستقبله في مهب المجهول.
معضلة الصندوق التي فاقمها تدريجاً الركود المستحكم باقتصاد المملكة الخائضة حروباً وسياسات خارجية وإنفاقا غير مسبوق على السلاح تستنزف مقدّراتها المالية على حساب مشاريع التنمية الاقتصادية والبشرية، تبلغ ذروتها الآن مع اجتياح "تسونامي" القروض المتعثّرة رأسمال الصندوق بالكامل.

أمام هذا الواقع المُرّ الذي لم يعد خافياً على أحد، أكان داخل المملكة أم خارجها، لم تجد السلطات السعودية بُدّاً من الإقرار بأزمة صندوق التنمية العقارية العميقة، وإن بطريقة مواربة، فأوعزت إلى إحدى الشبكات الإخبارية باستنطاق "مصدر!" في الصندوق لـ"توضيح" الصورة أمام الرأي العام، في لعبة إعلامية مكشوفة.
المصدر نفسه اكتفى بالقول لـ"الذراع الإعلامية الفضائية" إن الديون المتعثرة التي "نكَبت" الصندوق بعدما تخطّت 32 مليار ريال سعودي، أو ما يعادل 8.53 مليارات دولار، من أسبابها توقف 442 ألف مواطن عن سداد أقساط القروض التي استحصلوا عليها عبر الصندوق في سنوات سابقة، مضافاً إليه سبب آخر كامن في الآلية التي اتبعتها إدارته سابقاً.

ينطوي السبب الأول الذي أشار إليه المصدر، على معطىً هو غاية في الخطورة لدلالته على هشاشة قدرة الصندوق المالية التي تهدّد استمراريته وإمكانية منحه مزيداً من التسليفات لتخفيف أزمة السكن الحادة، نظراً إلى أن مجموع القروض المتعثرة (فقط من دون إجمالي القروض الهائل) تجاوز 32 مليار ريال، متخطياً رأسمال الصندوق البالغ 31 ملياراً! وهو ما يعني إفلاس صندوق التمويل العقاري فعليا، حيث ألتهمت الديون المتعثرة المستحقة له من قبل عملائه الممتنعين عن السداد رأسماله كاملاً.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومات السعودية المتعاقبة اضطُرت إلى مضاعفة رأسمال صندوق التنمية العقارية" REDF مرات عدة منذ تأسيسه في الأول من يوليو/ تموز عام 1974، حيث خصّصت له إذّاك 250 مليون ريال، قبل أن يزداد دوره أهمية على نطاق واسع داخل المملكة، ويصبح معتمَداً بقوّة في عمليات التمويل العقاري، تحديداً لبناء المساكن الجديدة والمجمّعات السكنية.

السبب المالي المتعلق برأسمال الصندوق يمكن للحكومة السعودية حلُّه بقرارين؛ الأول زيادة رأسمال الصندوق، كما درجت العادة، من خلال ضخ الأموال في شرايين خزينته التي أصابها الجفاف في ظل ضخامة الديون المتعثرة، والآخر تكفّل السلطات بسد القروض المتعثرة المستحقة على العملاء أو جزء منها أو إعادة جدولتها لتيسير عملية سدادها على آجال أطول.
وحسب محللين فإنه ليس من السهل تحويل الحلين لأمر واقع في ظل ضخامة العجز الذي تعاني منه الموازنة العامة للمملكة للعام 2018 وزيادة الدين العام ولجوء الحكومة لإجراءات لتقليص العجز المالي البالغ 52.8 مليار دولار منها الاقتراض الداخلي والخارجي عن طريق إصدار سندات الدين والصكوك، وفرض الضرائب الانتقائية، وضريبة القيمة المضافة، ناهيك عن فرض الرسوم والضرائب على الأفراد والشركات، وزيادة الرسوم على الوافدين.
بيد أن السبب الثاني الذي تناوله "المصدر" الذي كان يتحدث قبل أيام عن أزمة صندوق التمويل العقاري بالسعودية، والكامن في ما يمكن تسميته "تشوّهات بنيوية" في آلية عمل هذه المؤسسة التمويلية وإدارتها، فهو الأخطر الذي يجعل إيجاد حلّ لها أمراً ليس بالمتناول فوراً. فمع أن الصندوق لا يتّبع، في أهداف تأسيسه، وسائل لتحقيق الأرباح، إلا أنه لا يُفترَض أيضاً أن يُدار بوسائل تقوده إلى الهاوية كما جرى الآن.
ومع أن التوجّه القاضي بتسهيل إقراض مئات آلاف المواطنين السعوديين مئات المليارات لحل أزمة السكن، ليس أمراً سيئاً في الأساس، بل يجب أن يُكال له المديح في دولة نفطية أمكنها أن تمنح مئات مليارات الدولارات للرئيس الأميركي دونالد ترامب وأسرته في أقل من ساعة، بينما تفرض الضرائب على المواطنين والمقيمين لسد عجز الموازنة الهائل الذي فاقمته الحروب وفساد القطاعين العام والخاص!

لكن جوهر المشكلة هو أن يصبح تيسير الإقراض عشوائياً ولا يدرس ملف كل مقترض على حدة، ما يجعل العملية برمّتها عُرضة لمخاطر مالية شتى كادت أن تفلس الولايات المتحدة نفسها بعد تفجّر أزمة الرهن العقاري عام 2008، والتي يعود جذرها الأساسي إلى أواسط الثمانينيات عندما انتهجت السلطات الأميركية سياسة جعلت الاقتراض المصرفي سهلاً جداً ومُتاحاً في كل الاتجاهات من دون قيود لدرء الأخطار، قبل أن تدفع الثمن غالياً بعد أكثر من 20 عاماً.
وهذا ما يؤكده "مصدر" الصندوق السعودي بقوله إن الآلية التي كانت متّبعة سابقاً "لم تدرس الملاءة المالية للمستفيدين قبل الإقراض"، حيث كان ممكناً منحُ مستفيدين ذوي التزامات مالية عالية لمصارف ومؤسسات تجارية مختلفة، أن يحصلوا أيضاً من الصندوق على قروض بقيمة 500 ألف ريال رغم إدراك إدارته عجزهم المحتمل عن سداد الأقساط لاحقاً، وهذا ما رفع قيمة القروض المتعثرة لدى الصندوق إلى مستويات قياسية صارت تهدّد وجوده.

وتزداد أزمة الصندوق حدّةً مع المواجهات القضائية التي تربك إدارته والقيّمين عليه، وهو يسعى الآن جاهداً إلى استئناف أحكام أصدرتها ضدّه المحاكم الإدارية، وتقضي بتطبيق قرار صادر عن مجلس الوزراء بخصوص "الإقراض الحسن" للمستفيدين من رأسماله، طبقاً لنظام التسليف السابق.
بالإجمال، لا يمكن عزل تعثّر حوالى نصف مليون مواطن عن سداد قروضهم الإسكانية، عن حال الركود الاقتصادي الذي تعاني السعودية من تبعاته باستمرار منذ سنوات، وقد أفضى بالنهاية إلى إعلان صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد السعودي توقف عام 2017 عن النمو لتلامس نسبته الصفر في النصف الأول، بتأثير من أمرين: الأول عبّر عنه صندوق النقد بتراجع عائدات النفط بسبب هبوط الأسعار منذ منتصف العام 2014، وهو سبب بات معروفاً وبديهياً، بينما لم يُشر إلى الثاني المتمثّل بالإنفاق الهائل على حرب اليمن والتلهّي بسياسات خارجية ظالمة يتخللها الحصار الجائر المفروض على دولة قطر، وهو ما يرتد حُكماً على اقتصاد السعودية واقتصادات بقية الدول المتعاونة معها على هذا الصعيد.

كما أن مشكلة صندوق التنمية العقارية لا يمكن اعتبارها خارجة عن السيطرة عند أخذ التدخّل الحكومي المباشر، إن حصل، في الاعتبار، لكن تركه لآليات عمله الحالية قد يشكل تهديداً له، وربّما يمهّد لقرار حكومي بإلغائه إذا استمر فشله على المسار عينه في بلد وضع رؤية اقتصادية مثيرة للقلاقل، ويبقى تحقيقها مرهوناً بحسن الإدارة ومدى واقعية الغايات التي ترمي إلى تحقيقها.



المساهمون