النمو الاقتصادي وحده لا يكفي

النمو الاقتصادي وحده لا يكفي

04 ديسمبر 2019
احتجاجات القاهرة ضد حكم السيسي (Getty)
+ الخط -


أبى عام 2019 أن يرحل عنا قبل أن يشهد اشتعال الاحتجاجات القوية من جديد في العديد من الدول، في مختلف البقاع حول العالم، فيما بدا أنه تكرارٌ لما حدث في عامي 2010 و2011، ولكن بكثير من الخبرات المتراكمة، لدى الشعوب ولدى الحكام، على حدٍ سواء.

وعلى الرغم من استقرار الاقتصاد في العديد من دول أميركا اللاتينية، وحدوث طفرات في مستويات معيشة مواطنيها، في العقدين الماضيين، نتيجة لارتفاع أسعار كثير من السلع التي تنتجها تلك الدول، خرج ملايين المحتجين في شوارع كل من فنزويلا وبوليفيا وكولومبيا وبيرو والإكوادور وتشيلي والبرازيل، للتعبير عن عدم رضاهم عن السياسات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي قسمت الشعوب إلى فئة قليلة شديدة الثراء، وفئات كثيرة لا تحصل على مستويات مرضية من الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة والصرف الصحي.

وخلال الفترة التي شهدت ارتفاع أسعار السلع، قبل تراجعها بعض الشيء في السنوات الأخيرة، تحسنت الأوضاع الاقتصادية لملايين المواطنين في القارة اللاتينية، حتى إن بعض الدراسات تشير إلى انتقال ما يقرب من 80% من مواطني القارة من تحت خط الفقر، ودخولهم في الطبقة المتوسطة، خلال العشرين سنة الأخيرة. ورغم تزايد دخول المواطنين خلال تلك الفترة، أُغلقت أمامهم العديد من الأبواب التي كانت كفيلة بتحقيق استقرارهم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي.

وتشير العديد من التقارير إلى تزايد معاناة الطبقات الوسطى، بفئاتها المختلفة، من توقّف صعودها، وتعبئة الموارد العامة المحدودة لتضييق فجوة عدم المساواة بدلاً من مساعدتهم على تحقيق أهدافهم على أرض الواقع، الأمر الذي تسبب في تذمّرها، وهو ما اعتبره البعض السبب الرئيسي للاحتجاجات التي شهدناها في أغلب تلك الدول خلال الفترة الماضية.

وفي مصر، وبعد سنوات عديدة من الركود، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وتراجع الاستثمارات، وتقليص الدعم، بشّرتنا الحكومة بتحقيق معدل نمو 5.6%، وانخفاض معدل التضخم إلى 3.1%، وتراجع البطالة إلى أقل من 8%، وكلها بالتأكيد مؤشرات جيدة، إلا أن آثارها الإيجابية على المواطن العادي لم تظهر، حتى كتابة تلك السطور.

وقبل أشهر قليلة، أعلن الجهاز المركزي المصري للتعبئة والإحصاء، أن الفترة الماضية، التي قالت لنا الحكومة إنها شهدت تلك المعدلات "الرائعة"، سجلت وصول المصريين تحت خط الفقر إلى 33 مليون مواطن، أو حوالي 32.5% من المصريين في منتصف العام الماضي 2018، مقارنة بنسبة 27.8% قبلها بسنتين.

وفي نفس الاتجاه، أعلن البنك الدولي أن 60% من المصريين إما فقراء أو عرضة للفقر، وهو ما يعني أن النسبة الحقيقية أكبر من ذلك، حيث تعتبر مصر أن حد الفقر هو تحقيق دخل أقل من 1.5 دولار في اليوم، بينما يصل ذلك الحد لدى البنك إلى 1.9 دولار يومياً.

وترتفع نسب الفقر في مصر في وقتٍ تشهد فيه بعض الطبقات الموالية للنظام، من قيادات وأفراد، في وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والقضاء والإعلام وبعض مؤسسات القطاع الخاص، طفرات غير مسبوقة، يسمح بها النظام الذي يحاول توسيع دائرة المنتفعين من حوله، كنوعٍ من التأمين له.

وفي الوقت الذي اعتاد فيه أغلب المصريين على تحمّل مشاق العيش، وقسوة الظروف، على مدار عقود طويلة، على أقل تقدير، تأتي التفاوتات الأخيرة في ارتفاع دخول المصريين، وتحسن مستويات معيشتهم، لتؤكد تزايد عوامل عدم الاستقرار بشكل لا يبدو أن السلطة الحالية تعيه، بعد أن تعثرت حياة الملايين، وزادت معاناتهم، بينما هم يرون الآلاف من حولهم ينتقلون إلى العيش في قصورهم الحديثة في المجتمعات الجديدة شديدة الحراسة، يركبون السيارات الفارهة، ويعلّمون أبناءهم في المدارس الدولية، ويسافرون للعلاج خارج البلاد.

وفي عام 1973، كتب الاقتصادي الألماني ألبرت هيرشمان، مقالاً عن "تغير قدرات التحمل لتفاوت الدخول مع التنمية الاقتصادية"، شبّه فيه استئثار فئة من فئات المجتمع بالحصول على المزايا الاقتصادية الناتجة عن عمليات التنمية في دولة ما، بالسيارات المتوقفة في طريق مزدحم مكون من حارتين مروريتين في نفقٍ تحت الماء.

فلما خف الزحام، وتحركت السيارات في واحدة من الحارتين، شعر راكبو السيارات في الحارة الأخرى بالارتياح، لتوقعهم بأن تنفرج الأمور، وتتحرك السيارات في حارتهم، كما حدث في الحارة الأخرى.

لكن لو مر الوقت، ولم تتحرك السيارات إلا في حارة واحدة، أو كان هناك تفاوت كبير في سرعة تحرك الحارتين، يبدأ غضب الركاب في التصاعد، ولا تفلح في إخماده تأكيدات المسؤولين عن تنظيم الأمور بأن الانفراجة قادمة، أو أن متوسط معدلات سرعة السيارات في البلاد تفوق نظيرتها لدى الدول الأخرى.

ولم يدرك هيرشمان بالطبع، الذي اعتاد على احترام أغلبية المواطنين قوانين المرور في بلاده، أن تفاوت سرعة حارات السيارات في بلادنا يؤدي في كثير من الأحيان إلى جور بعض السيارات على الأخرى، وسرقة حقها في المرور، والتحايل وكسر القوانين، من أجل الحصول على ما يراه البعض حقاً مسلوباً، بصورة تنتهي إلى الفوضى في أغلب الأحيان، خاصة مع غياب ما يردع المخالفين!

عندما يؤدي الحراك الاجتماعي، واستئثار فئة معينة به، إلى زيادة الإحباطات، تشعر الطبقة المتوسطة التقليدية بأن الفئة المستفيدة تتربح على نفقتهم وتستحوذ على ثمار التنمية، فلا يعدو الأمر وقتها أن يكون مسألة وقت قبل اندلاع الاضطرابات الاجتماعية، ولا تكاد تنجح أي خطة في تلافي ذلك المصير المحتوم إلا بالعمل على أن يكون النمو مصحوبًا بإعادة توزيع فوائده.
الإنجازات الاقتصادية للنظام المصري الحالي محدودة، إن وجدت.

والمؤشرات التي يتمسك بها أنصاره تُمحى إيجابياتها باتباع سياسات تقصر الاستفادة منها على فئات معينة، تماماً كما فعل نظام مبارك في العقد الأول من الألفية الثالثة، حين وعد بتساقط ثمار الإصلاح على كافة فئات الشعب، فلما تأخر ما وعد به، لم يتساقط إلا نظامه ورجاله. فهل نشهد ذلك من جديد قريباً؟

المساهمون