"بزنس" عسكر السودان: أكبر من الدولة

"بزنس" عسكر السودان: أكبر من الدولة

14 يوليو 2019
يُشدّد العسكر قبضته على مفاصل اقتصاد البلد (فرانس برس)
+ الخط -
استطاعت قوات الدعم السريع في السودان تنويع مصادر دخلها، عقب انخراطها في حرب اليمن وحصول أفرادها على الأموال مباشرة ونقداً، من دون المرور بوزارة الدفاع أو القوات المسلحة أو وزارة المالية، فيما كشف قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) في لقاء صحافي سابق، تمويل هذه القوات نفسها من مشاريع استثمارية منفصلة عن جهاز الدولة، وإنشائها شركة للتنقيب عن الذهب في جبل عامر غرب البلاد، فضلاً عن امتلاكها مشاريع استثمارية أُخرى لم يُكشف عنها بعد.

"المجموعة السودانية للديمقراطية" تقول في تقرير: "التدخلات السياسية في تعدين وتجارة الذهب في السودان: تحديات الفساد وانعدام الشفافية"، إن تحالف الحكومة الديكتاتورية في السودان مع المليشيات وأمراء الحرب فتح الباب واسعاً أمام إثراء هذه المجموعات، فيما كان يدافع برلمان نظام عمر البشير عن ميزانية قوات الدعم السريع، باعتبارها ميزانية خاصة مُجازة من مؤسسات الدولة وخاضعة لرقابتها.

وكانت روسيا قد حظرت عام 2016 نشر تقرير أممي عن تمويل الحرب في السودان، ولا سيما إقليم دارفور، من خلال الذهب المستخرج من جبل عامر وغيره من المناطق، بينما تذهب معظم إيراداته إلى المليشيات الموالية للحكومة. لكن مجلة "فورين بوليسي" الأميركية كشفت عن جوانب من التقرير الذي أعدّته لجنة تتبّع لمجلس الأمن الدولي، واعترضت عليه روسيا كصديقة لنظام البشير، ووصفته بعدم الدقة.

كما أوضحت المجلة أن القوات الموالية للحكومة جنَت أرباحاً تخطّت 123 مليون دولار من تجارة الذهب خلال الأعوام القليلة الماضية. وبحسب "فورين بوليسي"، فإن قيمة الذهب المُهرّب بين عامَي 2010 و2014 تُقدّر بنحو 4.5 مليارات دولار، وبمعدّل تجاوز المليار دولار سنوياً.

في السياق، يعتقد أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية بالقاهرة حامد التجاني في تصريح صحافي، أن مليشيا الدعم السريع راكمت أموالاً ضخمة من مصادرها المتعدّدة لتمويل نفسها، في ظل غياب دور الدولة في المحاسبة والمراجعة المالية.

التجاني يقول إن هذه القوات ذهبت بعيداً في الخروج عن سلطة الدولة، وأصبحت دولة داخل الدولة وتمارس كل مهامّ الدول من جمع الضرائب وفرض الجمارك على المركبات في المناطق الحدودية بين دارفور وليبيا، وتستغل نفوذها من دون رقيب ولا حسيب، فضلاً عن إقامة علاقات خارجية مع دول مثل السعودية، بلا مرور عبر بوابة المؤسسات الحكومية بحسب الأصول.

ورغم انتقاد كثيرين لما يُخصّص لقوات الدعم السريع، فقد حجزت الحكومة في موازنة 2019 أكثر من 8 مليارات جنيه لميزانية الدعم السريع، أي أكثر من مخصصات الصحّة العامة البالغة 6 مليارات والتعليم المُحدّدة بثلاثة مليارات، في الوقت الذي خُفّضت ميزانية الأمن والدفاع إلى 13% من الموازنة، مقارنة مع 16% عام 2018، لتبلغ نفقات الدفاع 33 ملياراً و87 مليون جنيه، منها 14 ملياراً للدفاع و8 مليارات للدعم السريع.

المؤسسة العسكرية تُنفق على الدولة؟

في موقف لافت، قال رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان في لقاء مع قادة الأجهزة
الإعلامية، إن المؤسسة العسكرية ظلت تصرف على الدولة من أموالها الخاصة، وتبعه في ذلك نائبه حميدتي بقوله في أحد اللقاءات الجماهيرية، إن قوات الدعم السريع دعمت موازنة الدولة بمليار و27 مليون دولار، في الوقت الذي نفت وزارة المالية علمها بتلك المبالغ رغم اعترافها بنقص الإيرادات بسبب الظروف السياسية.

ومع أن الأوضاع الاقتصادية ما زالت عصيّة على الحلول، وسط سريان الفوضى في كل الأنشطة التجارية وغلاء الأسعار، وشلل جزء كبير من النشاط الاقتصادي بسبب سلوك المجلس العسكري في قطع الإنترنت خلال الفترة الماضية من دون أي تحسّن للأوضاع المعيشية، ما زالت طوابير الناس تصطفّ أمام محطات الوقود والمخابز وسحب النقود وووسائل المواصلات.

ولذلك فإن الكلام عن صرف المؤسسة العسكرية على الدولة، عزاه البعض إلى زيادة الإنفاق على بنود التسلّح والاستعداد، وهذا ما يُستدل عليه من الانتشار الكثيف لقوات الدعم السريع والجيش في الخرطوم.

نظام مالي "متقدّم"

إلا أن الاقتصادي أحمد محمد الشيخ يقول، إن أموال المؤسسة العسكرية تمتاز بنظام مالي متقدم كثيراً على نظيره التابع للدولة، نظراً لما تمتلكه من شفافية ومراجعة لوجود ضباط ماليين في كل وحدة، كما أنها تخضع لرقابة أكثر تشدّداً من الرقابة المدنية، فضلاً عن كونها ذاتية الاستثمار، مشيراً إلى أن في مختلف أنحاء العالم مؤسسات عسكرية لديها استثمارات كبيرة وتشترك جميعها في الشعار الموحّد: "تعمير في السلم وتدمير في الحرب".

كما تؤدي المؤسسة أدواراً اقتصادية كبيرة، لأنها تعتبر جزءاً من الدولة، وليست الحكومة التي قد تعصف بها هزّات اقتصادية بسبب سوء الإدارة والفساد، بحسب رأيه، لأن المؤسسة العسكرية مُحصّنة وتحافظ على إرثها الاقتصادي بما يُمكّنها من التدخل لوقف انهيار الدولة.

مصادر الأموال والاستثمارات

ويُعدّد الشيخ لـ"العربي الجديد" مصادر تلك الأموال، التي يجنيها العسكر من الاستثمار في
الأراضي والمشاركة في المصانع وموادّ الإنتاج، إذ تتدخل بعض المصانع لإنقاذ الأسعار في حال حصول ارتفاع كبير لها. كما يؤكد أن دعم القوات النظامية للدولة هو جزء من دورها في صون الأمن القومي وتوفير حاجات المواطنين، مشيراً إلى صيغة يُمكن التوصّل إليها عبر مقاصّة معينة لاسترداد أموالها عندما تتحسّن الأوضاع الحكومية مستقبلاً.

أما الاقتصادي الفاتح عثمان، فيقول لـ"العربي الجديد"، إن من إشكاليات الاقتصاد السماح لمؤسسات عسكرية وحكومات محلية وولائية بتشكيل أجسام اقتصادية واستثمارات خاصة بها. ففي مثل هذا المناخ، استطاعت أجهزة الأمن إنشاء كيانات في كل مجالات الاستيراد والتصدير والاستثمار، بحيث سُمح لقوات الدعم السريع باستثمار الذهب وإنشاء الطرق وكافة الخدمات المرتبطة بعمليات الإنشاء.

لكن الفاتح عثمان يقول، إن الدعم السريع وجد موضوع الاستثمار مترسخاً كممارسة معترف بها في مؤسسات الدولة، بيد أن الفرق بينه وبين المؤسسات الأخرى، أنه عمل في مجالات منتجة ولم يُعرف عنه العمل في مجالات التجارة، بل في استخراج الذهب، إضافة إلى أعمال أُخرى، مثل مكافحة الهجرة والضلوع بأدوار في حرب اليمن، فيما تجنبت هذه القوات المجالات الخاصة بالسلع المدعومة.

وعمّا يحدث حالياً، يقول الفاتح إن قيادة القوات المسلحة والدعم السريع وجدت نفسها مضطرة لتضع كافة إمكاناتها في خدمة الدولة، نظراً لحراجة الوضع الاقتصادي الحالي، بعكس ما كان يحصل سابقاً من استثمار أموال العسكر لأجهزته حصراً، فمن الطبيعي أن يضع مقدراته لمصلحة الاقتصاد، لكن المطلوب برأيه، ضرورة بناء اقتصاد تُجمع فيه كافة المقدّرات من كل المؤسسات لربطها بإحكام باقتصاد البلد.

استثمار العسكر "ضحية" الخصخصة

لكن اللواء الركن معاش الطاهر عبدالله يقول لـ"العربي الجديد"، إن الصرف الذي تتحدث عنه
المؤسسة العسكرية هو من قوات الدعم السريع وتحديداً من استثمارات ذهب جبل عامر، ويشير إلى أن استثمارات القوات المسلحة ذهبت ضحية الخصخصة وتم تجفيفها تماماً.

ويضيف: "كانت القوات المسلحة تمتلك شركة النصر العقارية، وحتى المؤسسة التعاونية للجيش ليس لديها استثمارات"، ويعتبر أن إنفاق صرف الحاصل حالياً يتخذ صفة عشوائية، بينما يُفترض أن يتم ذلك برقابة من وزارة المالية.

المحلل المالي هيثم فتحي، يرى في هذا السياق في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الاستثمار والاقتصاد ليس المهمة المتعارف عليها للجهات الأمنية بسبب تنوّع أنشطتها في كافة مجالات الاقتصاد، ما يجعلها دوماً في موقع منافسة غير عادلة مع شركات القطاع الخاص وغيرها من الشركات الحكومية، ما يقطع الطريق أمام الاستثمار، لأن المستثمر لن يجذبه بلد تسيطر فيه القوى الأمنية على الاقتصاد، ثم إن هذا التوجّه يقطع الطريق أمام القطاع الخاص ويؤدي إلى ضموره وخروجه تدريجاً من المشهد الاقتصادي.

ويشير إلى "عدم وجود قوانين ولا معادلة اقتصادية أو حتى سياسية، للتأكد من عدالة التنافس بين الكيانات الاقتصادية والمؤسسة العسكرية، إذ إن ديوان المراجعة القومي يقوم بالرقابة على أعمال تلك الشركات عبر مئات اللجان التي يرسلها سنوياً، وإذاً ثمة فارق كبير بين الرقابة التي قد يترتب عنها محاسبة ومساءلة، وبين مجرّد الاطلاع، مع وجود تجارب في دول عملت على تقليص الأنشطة الاقتصادية لجيوشها، وعلى رأسها الصين وتركيا.

الواقع يتطلب إعادة نظر
أما الخبير الاقتصادي محمد الناير، فيرى أن الوضع الطبيعي يقتضي أن تكون كل أموال الدولة في الخزينة العامة، مُبدياً اعتقاده بأن الهدف هو النقد الأجنبي الذي يجب أن يدخل إلى احتياطي البنك المركزي، وتُدفع مقابله عملة محلية.

أما الحديث عن صرف على الدولة فيطالب الناير بإعادة النظر فيه، لأن القوات المسلحة والدعم السريع تحصل على ميزانيتها من وزارة المالية، وهنالك استثمارات كثيرة تجب مراجعتها لإفساح المجال أمام القطاع الخاص لولوجها، باستثناء القطاعات المُصنّفة استراتيجية.

لكن الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي عادل عبدالمنعم، يقول لـ"العربي الجديد" إن المؤسسات العسكرية في العالم تتوافر لديها استثمارات ومشاريع شركات، وهي تنفذ طرقاً وجسوراً، مضيفاً: "نحن في السودان نجد أن المؤسسة العسكرية تمتلك أكبر مصرف هو "بنك أم درمان الوطني"، الذي لديه أرصدة كبيرة تتدبر من خلالها مرتبات القوات المسلحة، في حين أن قوات الدعم السريع لها ميزانية منفصلة انطلاقاً من مشاركة قواتها في حرب اليمن".

المساهمون