فضاؤهم وملاعبنا

فضاؤهم وملاعبنا

15 مايو 2019
دوامة اللهاث وراء لقمة العيش (فرانس برس)
+ الخط -
انشغل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، وعلت الأصوات في المقاهي والمطاعم والبيوت، تقريباً في كل شارع وحارة في مصر، على مدار الأيام القليلة الماضية، بقضية هامة، ربما تؤثر في حياة البلاد والعباد لسنوات قادمة، أو هكذا تصور المتناحرون.

بدأت "الأزمة" بدقائق أضافها حكم إحدى مباريات كرة القدم في الدوري المحلي، بدلاً من الوقت الضائع أثناء المباراة، ونجح أحد الفريقين في تسجيل هدف الفوز في آخرها، منتزعاً النقاط الثلاث، ومقترباً ربما من التتويج، رغم تبقي خمس أو ست مباريات له وللفريق الذي ينافسه، الأمر الذي يسمح بتعويض فارق النقاط في المباريات القادمة.

لم يكن أغلب المتابعين في بر مصر على استعداد للتفهم، فقد علا الشجار بين المتنافسين، وتابعنا تفاصيله على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل، حتى انجرف إليه العديد ممن يطلق عليهم الصفوة من المثقفين والمفكرين، الذين يفترض فيهم أن يساعدوا في قيادة سفينة الوطن، لا أن يساهموا في إغراقها في مناقشات ومشاحنات، أقل ما توصف به هو الصبيانية.

وفي نفس التوقيت تقريباً، كانت هناك احتفالية تم الترتيب لها بعناية فائقة، في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث كان جيف بيزوس، مؤسس عملاق تجارة التجزئة أمازون، وأغنى أغنياء العالم رغم فقدانه ما يقرب من نصف ثروته مؤخراً بسبب مغامرة عاطفية غير محسوبة المخاطر، يعلن رؤيته الحالمة لمستقبل يعيش فيه تريليون شخص، لا على القمر ولا على المريخ، اللذين وصفهما بأنهما بعيدان وغير مؤهلين للعيش ولا توجد بهما مساحات كافية، وإنما في ما يشبه التجمعات الريفية الفضائية، التي يرى بيزوس أن الأجيال القادمة هي التي ستقوم ببنائها.

وكأنما يضرب مثلاً عملياً للحديث الشريف الذي يقول: "إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، قال بيزوس في الاحتفالية إنه رغم علمه بأنه لن يتمكن من المشاركة في البناء الفعلي لتلك التجمعات، إلا أنه يرى أنه يمكنه عمل الكثير في إطار تجهيز البنية التحتية اللازمة لبنائها.

لم يكتف بيزوس بما حققه من نجاحات وثروات، وإنما يعمل جاهداً، بعد أن تجاوز الخامسة والخمسين من عمره، على مشروع يستغرق عشرات السنين، وهو يعرف أنه، على الأرجح، لن يتمكن من معايشة أغلب ما ستحققه تلك النقلة للبشرية.

وفي شرح رؤيته للمشروع غير التقليدي، اعتبر بيزوس أن موارد الطاقة الموجودة في الأرض نافدة لا محالة، وأن ذلك سيحد من الفرص المتاحة أمام البشرية للتطور والانطلاق، بينما يتيح النظام الشمسي، على حد قول بيزوس، كميات لا نهاية لها من الموارد.

وبخلاف شركة تجارة التجزئة أمازون، التي أسسها بيزوس عام 1994، والتي تجاوزت قيمتها السوقية تريليون دولار لأول مرة خلال الصيف الماضي، أسس عام 2000 شركة بلو أوريجين للصواريخ، في مدينة كنت بولاية واشنطن، قبل أن يعلن نيته بيع ما قيمته مليار دولار كل عام من أسهم أمازون، لتوفير التمويل اللازم لشركة الصواريخ.

ومنذ تأسيسها، أمضت بلو أوريجين عقدين من الزمان في تصميم واختبار تقنيات الصواريخ الجديدة التي يأمل بيزوس أن تساعد في الدخول في مستقبل للخيال العلمي، حيث يمكن لملايين الناس أن يحيوا ويعملوا في المدارات الفضائية وبين النجوم.

ولا تعد شركة بيزوس وحدها حالياً في سباق الفضاء، فقد بدأ إيلون ماسك، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي ومصصم سيارات تسلا الكهربائية، وريتشارد برانسون، مؤسس فيرجين التي تملك وتتحكم في أكثر من أربعمائة شركة، أعمالهما في نفس المجال أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، وساهما في دخول حقبة جديدة من رحلات الفضاء، من خلال ضخ الأموال في المشاريع التي اعتبرت لفترة طويلة باهظة الثمن، ومحفوفة المخاطر، بالنسبة للقطاع الخاص.

هؤلاء أقوامٌ تشغلهم القضايا الكبيرة، ويترفعون عن صغائر الأمور. يكدون ويعملون وتستفيد من أعمالهم البشرية جمعاء، بينما نتقاتل في بلادنا دفاعاً عن رأي أو وجهة نظر في نقاط مباراة للكرة، أو فستان فنانة، أو إعلان تلفزيوني. نتعامل بمنتهى الجدية مع قضايا هزلية، وعند الجد تهبط الهمة ويختفي الحماس، وكأننا حققنا كل ما نأمله لوطننا وحان وقت الاسترخاء.

وبعيداً عن الانشغال بتوافه الأمور، لا شك أننا كمصريين، مثلما هو الحال في العديد من الدول العربية "الشقيقة"، جرى التخطيط بعناية "نادرة" لإدخالنا كطبقة متوسطة وفقيرة في دوامة اللهاث وراء لقمة العيش، وفي حالات كثيرة البحث عن ملاذ يؤوينا، حتى أصبح التفكير في تطوير الذات، ناهيك بالعمل من أجل رفاهية الآخرين من أبناء الوطن، من الكماليات التي لا يسمح بها حالنا الآن.

وفي غمرة الجهود المبذولة لصرفنا جميعاً عن مجرد "التفكير"، خشية أن يؤدي تفكيرنا إلى الثورة عليهم والإطاحة بهم، فقدنا القدرة على التفكير في أي تطوير أو حلول لمشاكلنا الكبرى، وكان منها بالتأكيد غياب دولة القانون، وفقدان ثقة المواطنين في الحصول على حقوقهم، أو العيش بسلام مع بعضهم البعض، وما مشاجرة "هدف الوقت بدل الضائع" إلا انعكاس لتلك الحالة.

الأزمات الاقتصادية في مصر كبيرة حقاً في الوقت الحالي، وعلى رأسها ديون خارجية آخذة في الارتفاع، بلا أي خطة لسدادها أو تخفيضها في المستقبل القريب، مع غياب تام للشفافية والمساءلة عن أولويات استخدام المبالغ المقترضة في هذا الوقت العصيب، ثم الاستسلام لبيع الأراضي والشركات المصرية للأجانب بصورة مجحفة لحقوق المصريين.

وفي خضم كل ذلك لا يسمح للمصريين بمحاسبة من يتخذون تلك القرارات، ولا بمناقشة أي حدث إلا لو كان من التوافه، في تخريب واضح لبلدٍ كان مهداً للحضارة، ثم هو الآن في "حفرة" تحت الأرض، يحتاج عشرات السنين للخروج منها.